حقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤلف، ولا يجوز الطبع أو النشر أو التبادل بأي وسيلة دون الرجوع للمؤلف.
سِيرَة بَني فَهْمَان
مسرحية
تأليف
السيد فهيم
شخصيات المسرحية :-
عدنان رجل أربعيني
أحلام
زوجة عدنان
سعفان تاجر ثري في
الخمسين
نفيسة زوجة سعفان
الصبي خادم سعفان
بائع البطيخ
بائع العسل
عباس النخاس
ريحانة الجارية
عمار الخمَّار
سكران1
سكران2
فضلان شيخ التكية
درويش1
درويش2
المرأة
الرجل
الشرطي
الحاجب
القاضي
المشهد الأول
السوق
حوانيتٌ تبيعُ سلعا مختلفة – عباسُ النخاس يعرضُ بعضَ الجواري والعبيد
والغلمان – بائعُ البطيخ يدفعُ عربة البطيخ
أمامَه – بائعُ العسل يحملُ جرة كبيرة ومكيال - جزار – باعة جائلون – شحاذون .. إلخ.
يُفتحُ الستارُ على إضاءة خافتة تزداد تدريجيا ليتضحَ المنظرُ، بينما نسمعُ
صوتَ الراوي رصينا عميقا :
صوت الراوي : طاب
مساؤكم أيها السيداتُ والسادة .. حكايتُنا تدورُ في زمنٍ غيرِ معلوم ..
ومكانٍ ليسَ مُحددا على خريطةٍ في
العُموم .. أولُ مشاهدِها في سوقِ المدينة
الكبيرة .. حيثُ يُباعُ كلُ شيءٍ يَخطرُ لكم على
بال ..
بائع البطيخ :
البطيييييخ ..
بائع العسل : العسلُ الجبليُ المُصَّفَى ..
صوت الراوي : ومما لا يخطرُ على بال .
عباس : لديَّ
الغلِمان .. والجواري الحِسان ..
صوت الراوي : لا أعني تجارة البشر .. فهي قديمةٌ قِدمَ
الزمان ..
بل أعني سلعة أخرى .. أتى بها ذلك المدعو عدنانُ ابنُ فهمان ..
(يظهر عدنان حاملا سلة يغطي بضاعته الراقدة
داخلها بغطاء قماشي لا يُظهر سرَه – ينادي وسط صخب السوق )
عدنان : هيا
.. هيا .. من يشتري بضاعتي الثمينة؟! .. المُعاينة مجانا .. بضاعتي لمن
يُقدرُها
حقَ قدرِها .. فرصة عظيمة لا تتكررُ كلَ يوم .. مَن صاحبُ الحظِ السعيد
الذي يشتري بضاعتنا النفيسة .. أَقبِلوا وقلِبوا
كيفما شئتم .. وبين الشاري والبائعُ
يفتح
الله.
بائع البطيخ : ( مناديا ) بطييييخ ..
عدنان : لا .. ليس بطيخا ..
بائع العسل : ( ينادي ) عسل .. والله عسل ..
عدنان : هذا من لطفك يا سيدي ..
بائع العسل : (مقتربا في فضول) ماذا تبيعُ في تلك
السلة؟!
عدنان : هل تشتري؟!
بائع العسل : لا ..
عدنان : إذن
لا شأن لك ..
بائع البطيخ : (يحاول أن يرفع الغطاء) اكشف لنا بضاعتك
.. واللى ما يشتري .. يتفرج.
عدنان : ( في ضيق ) بضاعتي ليست للفرجة ..
بائع البطيخ : (يشيح بوجهه وهو ينادي بصوت ممطوط ) بطيييييييخ
..
عدنان : (معترضا) قلت لك ليست بطيخا .. ( يتحسس بضاعته بلطف ) أي نعم هي تشبه
البطيخة
.. لكنها ليست حمراء.
بائع العسل : ( مناديا برقاعة ) عسل .. عسل أبيض ..
عدنان : كما
أنها ليست بيضاء ..
بائع البطيخ : فزورة ؟!
عدنان : لا
.. بل أعقدُ من ذلك .. بضاعتي ليس لها مثيل .. قطعة فريدة من صنع الله
القدير .
( استعراض غنائي مضمونه التغزل في بضاعته والمبالغة في وصفها واضطراره آسفا
لبيعها والتفريط فيها رغم أنها لا تقدرُ بثمن )
( ينتهي الاستعراض ويعود كلُ تاجر
لعرض بضاعته بينما يختفي عدنان حاملا سلته وهو لازال ينادي )
عدنان : هيا .. من يشتري ؟! .. بضاعة متكلفة وثمنُها
فيها .. هيا .. من يشتري؟! ..
من صاحبُ الحظ السعيد ؟! .. من يشتري؟! (يخرج)
صوت الراوي : وطاف عدنانُ بالسوقِ مناديا .. يعرضُ بضاعتَه
العجيبة في إصرار ..
في نفس الوقت الذي كانت فيه زوجتُه أحلام تبحثُ عنه في كل مكان.
( تظهر أحلام تنادي في حُزنٍ وحيرة )
أحلام : عدنان .. أين أنت يا عدنان؟! .. عدنان ..
بائع العسل : ( في فضول ) طفلٌ تائه؟!
أحلام : بل زوجي .
بائع البطيخ : ( مستنكرا ) زوجك؟!
أحلام : نعم زوجي .. خرج منذ الصباح يحملُ همَّه
في سلةٍ وجاء إلى السوق.
بائع العسل : ( متهكما ) همَّه؟! .. اسألي عليه في سوقِ
الهموم .. همَّه ؟! .. ياللعجب!
(ثم يعود للنداء على بضاعته غير مكترث بها ) العسل
.. العسلُ المُصَّفى .
بائع البطيخ : لا تقلقي .. سيعودُ إليك آخرَ النهار.
أحلام : لقد
أقسمَ ألا يعود.
بائع البطيخ : أقسم؟! .. لماذا ؟!
أحلام : ( في حزن ) لقد أغضبته غضبا شديدا.
بائع البطيخ : اطمئني
.. سيعود .. لا يوجدُ في زماننا هذا رجلٌ يبرُ بقَسَمٍ لزوجته ..
( يعود للنداء على بضاعته ) البطييخ .. حَمار
وحلاوة ..
أحلام : ( في حيرة ) زوجي عنيد .. أنا أعرفه جيدا
..
( تستمر في النداء في حزن وجزع ) عدنان ..
أين أنت يا عدنان؟!
( تخرج أحلام - بينما يظهر سعفان
وخلفه زوجته نفيسة؛ ثم الصبي الذي يحملُ أكياسا كثيرة )
نفيسة : ( تخاطب زوجها في ازدراء ) تقدم يا موكوس
.. أسرِع يا رجل ..
سعفان : ( للصبي في ضيق ) تحرك يا لُكَعي .. أسرع
يا صبي الغبرة .
الصبي : هي لا
تقصدني أنا يا سيدي .. بل تقصدك أنت.
سعفان : وأنا
أقصدكَ أنت يا مغفل ..
نفيسة : (تنادي زوجها في تأفف) يا دودة .. أنت يا
دودة ..
الصبي : هاهي تناديك
يا سيدي ..
سعفان : ( ملبيا في استسلام ) أمركِ يا زوجتي
العزيزة ..
نفيسة : ( بغلظة ) لا تنادني زوجتك ..
سعفان : ألستِ
زوجتي؟!
نفيسة : هذا في
البيت .. أما هنا .. فاسمي نفيسة ..
سعفان : وهل يصحُ
أن أدعوكِ في السوق باسمك المجرد؟!
نفيسة : ( بدلال ) يمكنك أن تدعوني سيدتي ..
بائع العسل : (كأنه يغازلها) عسل .. والنبي عسل.
سعفان : (ينهر بائع العسل بينما يخاطب زوجته مستسلما)
طبعا سيدتي .. وتاج رأسي ..
(
ثم بضيق ) لكن في السوق؟!
نفيسة : في كل مكان .. أم عندك اعتراض؟!
سعفان : لا .. ليس لدي اعتراض ..
نفيسة : إذن
اتبعني من سُكات.
سعفان : أمركِ
يا .. يا سيدتي ..
بائع البطيخ : ( مستهزءا ) أحمر يا بطيييييخ ..
( تتجول نفيسة في السوق تقلب في بعض الأقمشة المعلقة وخلفها سعفان كتابع
ذليل، الصبي مشغول بمغازلة ريحانة إحدى جواري عباس النخاس )
عباس : لديّ
الجواري الحسان .. ومن الغلمانِ أشكالٌ وألوان ..
الصبي : ( مغازلا ) ما أحلى الحسان .. وجمال
الحسان.
عباس : من
السند والهند .. وبلاد العجم والتركمان .
الصبي : ( لريحانة ) من أين يا صبية؟!
ريحانة :
عربية .. من لبنان.
الصبي : ( معجبا ) صلي على النبي العدنان .. اسمك؟!
ريحانة : ريحانة.
الصبي : ( يتشمم الهواء هائما ) أذوبُ في عطر
الريحان .. شممته من أول الميدان .
ريحانة :
وأنت؟!
الصبي : أنا؟!
.. عاشقٌ ولهان.
ريحانة : اسمك؟!
الصبي : ( وقد بوغت بالسؤال ) ها ؟!
سعفان : ( ينادي في غضب ) أنت أيها الصبي ..
الصبي : ( يهرول إليه ) سيدي سعفان !
سعفان : ماذا
تفعل يا تلفان؟!
الصبي : لا شيء يا سيدي .. كنت أتفرج.
سعفان :
تتفرج؟! .. هل هذا وقته؟!
الصبي : أرجوك
يا سيدي .. بعني لهذا النخاس واكسب فيّ ثواب ..
سعفان : اصمت أيها
الغبي .. لا تجلب علينا غضب سيدتك .. لن نسلم من لسانها.
الصبي : بمقدورك
أن تطلقَها ..
سعفان : لو
سمعتك لباعتك للجزار ..
الصبي : سكينُ
الجزار أرحمُ من لسانِها المسموم .
( يظهر عدنان حاملا سلته – ينادي )
عدنان : من
يشتري ؟! .. من يشتري هذا الكنز الثمين؟! .. من لديه هواية الاقتناء وجمع
النفائس؟!
.. بضاعة مضمونة .. وصفقة رابحة لمن يشتري .. من يشتري؟!
نفيسة : (تستوقفه) انت يا ..
عدنان : عدنان
.. اسمي عدنان بنُ فهمان يا سيدتي.
نفيسة : ماذا
تبيع؟!
عدنان : بضاعةً
نفيسة.
الصبي : (يضحك بصخب) نفيسة .. ها ها ها ..
نفيسة : (تلكزه في ضيق) علام الضحكُ يا شقي ؟! .. (لعدنان)
أرني تلك البضاعة.
عدنان : هل
تشترين؟!
نفيسة : (بدلال) إذا أعجبتني البضاعة.
عدنان : ( يجاريها ) بضاعتي ليس لها مثيل ..
الصبي : (مستغرقا في الضحك ) أكيد .. أليست
نفيسة؟!
سعفان : (يضرب الصبي بغيظ ) اصمت يا ملعون ..
(ثم لعدنان بضجر) اكشف لنا بضاعتك
يارجل
.
عدنان : ( في ضيق ) وما شأنك أنت؟! .. هل تشتري؟!
سعفان : زوجتي
.. ( مستدركا في خوف ) عفوا .. سيدتي .. تريدُ أن تتفرج.
عدنان : ( بضيق ) بضاعتي ليست للفرجة ..
سعفان : إذن
هيا بنا يا زوجتي العزيزة .. إنه لا يريد البيع .
نفيسة : ( في عصبية ) انتظر يا دودة .. لقد أثار فضولي .
عدنان : دودة؟!
.. اسمك دودة؟!
سعفان : اسمي
سعفان .. لكن زوجتي تعشقُ الدود .. فتناديني بأحب الأسماء إليها ..
ثم ..
ما شأنك أنت؟! .. اكشف بضاعتك يا رجل دعنا
ننتهي من هذا الموال.
عدنان : لن أكشفَ الغطاء .. إلا إذا كانت لديكما الرغبة
الحقيقية في الشراء ..
( متهكما ) يا سيد دودة.
نفيسة : (بدلال) لدي الرغبة .. اكشف يا رجل ..
ماذا تنتظر؟!
سعفان : هل هو
سر؟!
عدنان : لا ..
ليس سرا .. لكن البضاعة قد تفسد إذا كُشفِت في الهواء كثيرا .. لذلك
وجب الحرص.
نفيسة : ( بميوعة ) قلت لك اكشف يا رجل.
الصبي : ( يقلد سيدته ) قالت لك اكشف يا رجل .
عدنان : ( لسعفان مؤكدا ) أكشِف؟!
الثلاثة :
اكشف ..
عدنان : (يشمر عن ساعديه ثم يمد يده وهو يتمتم ) على
بركة الله .. بضاعة معتبرة ..
حاجة
لوز .. توكلنا على الله ..
( يكشف الغطاء عن بضاعته – تظهر رأسٌ تشبه رأسَ عدنان مقطوعة ومستقرة في
السلة – فور رؤيتها يرتدُ الجميعُ فزعا - تصرخ نفيسة وتهوى فاقدة الوعي – يسرع
الصبي وسعفان في إفاقتها بينما يتجمع أهل السوق في فضول )
سعفان : زوجتي
.. نفيسة .. ماذا أصابك؟!
الصبي : سيدتي .. سيدتي نفيسة ..
بائع العسل : لا
نبضَ ولا نفس ..
بائعُ البطيخ : ماتت؟!
الصبي : الحمدُ لله .. ( يصافح عدنان في امتنان ) لن ننسى لك
هذا الجَميل.
سعفان : زوجتي
الحبيبة .. نفيسة .. نفوستي .. ( لعدنان بغضب ) ماذا فعلتَ يا رجل؟!
عدنان : ألم تكن
هذه رغبتها؟! .. على العموم لا تقلق .. ستُفيق حالا .. من فضلك .. من
فضلكم
..
( يفسحون له فيخرج قنينة صغيرة يقربها من أنف نفيسة متمتما )
عدنان : بسم
الله الشافي.
( تصرخ نفيسة حينما تفيق وترى وجه عدنان )
نفيسة : قتيل
.. قتيل ..
سعفان : لا
تخافي يا زوجتي الحبيبة .. ( ناهرا عدنان ) ما هذا يا رجل؟!
عدنان :
البضاعة.
نفيسة : قتيل
.. رأسُ قتيل ..
عدنان : لا يا سيدتي .. هذه رأسي أنا.
سعفان : ( مدهوشا ) رأسُك؟! .. تلك التي في
السلة؟!
عدنان : نعم
رأسي .. ألا ترى أنها تشبهني؟!
الصبي : ( في غباء ) أنت القتيل؟!
نفيسة : (تتأملُ الرأسَ في السلة وتقارن بينها وبين
رأس عدنان في حيرة ) نعم تشبهك ..
( ثم بحيْرة ) لكن إن كانت هذه هي رأسَك؛ رأسُ
من هذه التي بين كتفيك؟!
عدنان : رأسي
أيضا ..
سعفان : قتيلٌ برأسين؟! .. هذا عجيب ..
عدنان : يا سيدي الدودة .. هل سبق ورأيتَ قتيلا يمشي
على قدميه ويكلمُ الناسَ جهارا
نهارا؟!
.. ويبيعُ ويشتري في الأسواق على رؤس الأشهاد؟!
نفيسة : عرفتك
.. أنت شبحُ القتيل .. أشتاتا أشتوت . ( ترتعد في رعب ورهبة )
عدنان : أنا
لستُ قتيلا يا سيدتي .. أنا حيٌ أرزق.
سعفان : ألم تقل
أن تلك الموضوعة في السلة هي رأسُك!
عدنان : نعم
رأسي .
سعفان : ومن
قطعها؟!
عدنان : أنا .
نفيسة : ( تدق صدرها بجزع ) انتحرت؟!
عدنان : لا ..
لم أنتحر .. لستُ بهذه الحماقة.
سعفان : اذن لماذا قطعتها؟!
عدنان : لأبيعَها
في السوق .
سعفان : أنا لا أفهمُ شيئا !
الصبي : ولا أنا ..
نفيسة : أيها
الغبيان .. هذا يشبهُ شغلَ الحُواة .. هذا الرجل دجال ..
سعفان : دجال ؟!
نفيسة : أو ساحر
..
الصبي : يا لطيف
.. يا لطيف ..
عدنان : لستُ
دجالا يا سيدتي .. أنا أعرضُ بضاعتي فقط .. وبين البائع والشاري يفتح الله.
( يغطي بضاعته ويهم بالإنصراف – تستوقفه نفيسة في حنق )
نفيسة : بعد ما
أصابني من رعب لن أتركك حتى أفهمَ سرَ هذا القتيل .
سعفان : ( بلهجة الخبير ) ليس قتيلا .. إنها رأسُه.
نفيسة : رأسُ من
يا رجل يا مخبول؟!
الصبي : رأسُ
هذا السيد .. هو قال ذلك بلسانه.
نفيسة : أنت أصابك
الخبل مثل سيدك .. كيف ورأسه لازالت على كتفيه ؟!
عدنان : هذا هو
السؤال الموزون .. دعوني أشرح لكم .. تلك الرأس الموضوعة في السلة
ما هي
إلا عينة للعرض فقط .. أما البضاعة الحقيقية .. فهي تلك الرأس المحترمة
المستقرة
على كتفي.
سعفان : وتلك التي في السلة؟!
عدنان : مجرد دُمية
.. دمية تشبهني تماما .. صنعتها بنفسي .. ما رأيكم (يحملها في زهو )
الصبي : ( برعب ) انها تقطرُ دما !!
عدنان : هذا دمٌ
صناعي .. إمعانا في الاتقان ..
نفيسة : كيف؟!
عدنان : سرُ
الصنعة يا سيدتي ..
نفيسة : ألم أقل لكما ؟! .. دجال .. ومشعوذ .
عدنان : فرق كبيرٌ بين العلم، والشعوذة يا سيدتي.
سعفان : علم النصب والاحتيال .. تريدُ أن تبيعَ لنا
بضاعة وهمية؟!
عدنان : أي وهمٍ يا سيدي .. البضاعة على عينك يا تاجر ..
هذه مجرد عينة ..
نفيسة : تقصد مجرد دمية !
عدنان : لا يا سيدتي .. تلك التي في السلة .. أما هذه ( يشير إلى رأسه ) فحقيقية .. لكن لم
أتمكن
من وضعها في سلة.
سعفان : لماذا؟!
عدنان : أموت .
نفيسة : وهل هذا يُعقلُ يا رجل .. تبيعُ رأسَك؟!
عدنان : وما الغريبُ في ذلك .. أليس هناك من يبيعُ كُليتَه
.. أو حتى فصا من كبده؟! ..
ناهيك عمن
باعوا الضمائرَ والذمم.
سمعان : لكن رأسَك؟! .. هذا مالم يحدث أبدا!
عدنان : هذه
وحدها ميزة كبيرة يا سيدي .. ستكونُ سابقة في تاريخ البيع والشراء ..
سيُكتبُ
اسم البائع واسم الشاري في التاريخ بماءٍ من ذهب ..ها ؟! نقول مبروك؟!
الصبي : ومن هذا
المعتوه الذي يدفعُ دينارا في رأسِك المفلطحة؟!
عدنان : لو علم
مزاياها لدفع وزنها ذهبا .. (هامسا بخطورة ) إنها ليست رأسا كأي رأس ..
فقد
ورثتُها عن أبي فهمان بن عدنان بن فهمان بن عدنان بن فهمان .
سعفان : ( يفحص رأسه باستهزاء ) حقا؟! .. عينان مثل
أي عينين ..
عدنان : نظرٌ
ثاقب مثل الصقر .. ستة على ستة .
سعفان : وأذنان
..
عدنان : مثل
الرادار .. تسمعُ دبة النملة.
الصبي : وأنفٌ
بفتحتين مثل المدخنة ..
عدنان : يشمُ
كل الروائح ويميزُ كافة أنواع العطور.
نفيسة : وفمٌ
عادي .. يحوي لسانا وأسنانا ..
عدنان : مثل
اللؤلؤ .. مرصوصة بعناية .. كاملة لا ينقصها ضرسٌ ولا ناب ..
قلِّبي
يا سيدتي .. قلِّبي .. وعايني بنفسك.
نفيسة : ( تتأمله بإعجاب ) بضاعة لا بأس بها
.. لكن .. ( بدلال ) ينقصُها شاربٌ
..
ولحية.
عدنان : ذلك أمرٌ
سهل للغاية .. ما أسهل إطلاق اللحى في هذا الزمن ..
سعفان : ( في ضيق ) كل هذا لا يجعل من بضاعتك سلعة
ذات قيمة.
عدنان : صدقت ..
هناك ما هو أهمُ وأنفس ..
( يتلفت في حذر ثم يقولُ
هامسا في خطورة هو يشير لرأسه )
ذلك
الكَنز المخبوء داخل هذا الصندوق .
الثلاثة : كَنز؟!
عدنان : نعم .. داخل
عظام هذه الجمجمة.
سعفان : أيُ كنز ؟!
عدنان : كنزٌ لا
يقدرُ بمال .. ورثته أبا عن جد.
نفيسة : مخبوءٌ داخل
هذا الرأس؟!
عدنان : نعم ..
سعفان : أنت تماطل .. وتضيعُ وقتنا .. هيا يا زوجتي ..
إنه رجلٌ مجنون.
نفيسة : انتظر
يا دودة .. ( لعدنان بفضول ) هل حقا تخبيء كنزا داخلَ هذا الرأس؟!
عدنان : نعم .. أم تظنون أنني أعرضُ بضاعة بلا قيمة؟!
نفيسة : لن
أشتري حتى تخبرني عن سر هذا الكنز.
عدنان : سأخبرك
يا سيدتي وأمري لله .. ( يتلفتُ في حيطة مشيرا لرأسه ) إنه .. إنه العقل
.
الثلاثة : ( باستنكار واستخفاف ) عقل ؟!
سعفان : (في ضجر) عقلٌ مختلٌ بلا شك .. ذلك العقل الذي يُسَوِّلُ
لصاحبه أن يبيعَ رأسه.
عدنان : هذا
العقلُ الذي تسخر منه يا سيدي يحوي موسوعاتٍ ومجلدات من أمهات الكتب
والذخائر
.
سعفان : ماذا يُفيد؟! ( يُعرضُ عنه بلا
اكتراث )
عدنان : ( محاولا إقناعه ) يحوي أخبارا عن أممٍ سبقت .. وسيرَ الأعلام
وترجماتِ النبلاء ..
الصبي : (باستخفاف) حواديت يعني؟!
عدنان : يحملُ
تاريخَ الفلسفة .. وعلومَ الحكمة والطب ..
نفيسة : ماذا يَعنيني
.. هل يحملُ موسوعاتِ الطبخ .. وأحدث صيحاتِ الموضة؟!
عدنان : يحملُ
أسرارَ الكيمياء ..
الصبي : ( في سخرية واستهزاء ) ماء .. ماء
عدنان : ويحفظُ مأثوراتِ الأدباء ..
الصبي : باء .. باء
عدنان : والشعراء ..
الصبي : راء .. راء
عدنان : يحملُ
بين ثناياه أكثرَ من ألفي كتاب بثلاثِ لغات مختلفة.
سعفان : ( يفحص رأس عدنان بين كفيه ) لا أرى شيئا
.. يبدو كالأرض الجرداء الخربة.
عدنان : جرب ولن
تندم .
سعفان : يفتح
الله .. ( يهمُ بالرحيل )
عدنان : ( في استجداء لنفيسة ) سيدتي ؟!
نفيسة : ( مترددة ثم في ميوعة ) لا أجدُ ما يغريني
لاقتناء رأسٍ بلا جسد.
عدنان : عفوا يا
سيدتي .. أنا أعرضُ رأسي فقط للبيع .. لكن
دون فصلِها عن الجسد .. هذا
أهمُ شروط
الصفقة .. أن يكونَ الرأسُ للمشتري .. وباقي الجسد يبقى لي ..
نفيسة : كيف؟!
.. هي شروة واحدة ..
سعفان : هيا يا
زوجتي العزيزة .. ليس لدينا وقتٌ نضيعه مع هذا المأفون.
عدنان : انتظرا
.. لنراجعَ الأمر .. ( بعد تفكير ) يمكنكما أن تصطحبا الجسدَ
مع الرأس ..
لكن بشرط.
نفيسة : ما هو؟!
عدنان : حينما
يطلبُ الجسدُ أن يقضيَ حاجة .. أو يطلبُ راحة اسمحوا للرأس أن ترافقه ..
فالجسدُ
بلا رأسٍ جثة لا قيمة لها .. كذلك الرأسُ بلا جسد كغطاءٍ بلا وعاء .
سعفان : صفقة فاسدة .
الصبي : بضاعة كاسدة.
نفيسة : ( بعد تفكير ) لن نخسرَ شيئا .. حفنة من
الدنانير.
سعفان : ( في دهشة ) نفيسة ؟! .. عفوا .. سيدتي؟!
نفيسة : ( في لهجة حادة آمرة ) لا تفاصل معه كثيرا
.. ادفع حتى مائتى دينار ..
واحمل
البضاعة إلى الدار.
سعفان : أحقا ما
تقولين ؟!
نفيسة : نفذ ما
أمرتك به .. ولا تتأخر .. عشر دقائق وتكون البضاعة في الدار بلا خدش ..
أو تلف .. فاهم ؟! .. إياك أن تفسدَ البضاعة ..
ولا تدفع أكثر من مائتي دينار.
( تخرج – يلاحقها سعفان في دهشة
وحيرة )
سعفان : سيدتي
.. نفيسة .. نفوستي ؟!
الصبي : ما العملُ يا سيدي؟!
سعفان : ما باليد حيلة .. تعرف سيدتك وتسلطها .. ولسانها
السليط .
الصبي : ( يتحسس قفاه ) وكفها الثقيل أيضا ..
اشترى يا سيدي .. وأمرك لله.
سعفان : ( لعدنان ) كم تطلبُ ثمن هذه الرأس؟!
عدنان : ألف
دينار .
الصبي : يا رجل
!! .. ألم تسمع بأذنيك .. قالت لا تزد عن مائتين.
عدنان : يفتح
الله ..
سعفان :
ثلاثمائة ..
عدنان : أنت لا
تقدر البضاعة حق قدرها ..
سعفان : خمسمائة
.. ( ثم هامسا في رجاء ) وقل لزوجتي أنها مئتان ..
عدنان : تسعمائة
.. ولن أكذب ..
سعفان : تريدُ
خراب بيتي؟! .. خذ الألف وقل لها مئتين .
عدنان : قلتُ لك
لا أكذب ..
سعفان : ألف
وخمسمائة ..
عدنان : ألفي
دينار .. وليسامحني الله على تلك الكذبة البيضاء.
سعفان : العوض على الله .. ( يخرج صرتين من المال ) خذ .
عدنان : المالُ
يذهب إلى أمِّ العيال .. اسمها أحلام .. تسكنُ بجوار الخان .. وأنا من الآن
أضعُ
رأسى تحت تصرفك يا سيدي.
سعفان : ( آمرا ) أيها الصبي.
الصبي : أمرك يا سيدي !
سعفان : احمل
البضاعة إلى الدار.
الصبي : (مشدوها ) ماذا؟! .. أحملُ ماذا؟!
سعفان : البضاعة .. حتى لا نتأخر على سيدتك.
الصبي : ( يدورُ حول عدنان في دهشة وضيق محاولا حمله
) لقد اشترينا الرأسَ فقط ..
افصلوها
عن الجسد وأنا أحملُها .
سعفان : لا يمكن .. ألم تسمع قوله؟! .. الرأسُ لو فُصِلَت عن جسدها تفقدُ ميزتَها ..
الصبي : إذن؛ سأكتفي بحمل العينة .. ولتتبعني باقى
البضاعة سيرا على قدميها إلى الدار ..
سعفان : ( يخطف السلة ) سأحملُ أنا السلة بما فيها
.. واحمل أنت الرأس بما علق بها من
جسدٍ
واتبعني .. هيا .. لا تُضِع الوقت.
الصبي : وباقي الأكياس التي كنتُ أحملُها؟!
سعفان : تصرَف يا بليد .. سأسبقك إلى الدار.
( يحمل سعفان السلة ويخرج – يحاول الصبي
اللحاق به دون جدوى )
الصبي : انتظر يا سيدي .. سيدي !!
( يتأمل عدنان في غضب وحيرة وهو يحوم حوله ) حرام
.. والله العظيم حرام .
سعفان : ( من الخارج ) أسرع أيها الصبي ..
الصبي : (يحاول حمل عدنان - في يأس ) والله حرام.
إظلام
المشهد الثاني
بيت سعفان
حوش المنزل – باب أقصى اليمين يُفضي إلى الخارج – وعدة أبواب متفرقة تُفضي إلى باقي غرف الدار –
سلم خشبي أنيق في الخلفية يؤدي إلى الطابق العلوي – أرائك مصفوفة بعناية - يدل الأثاث على يُسر
العيش وسعته.
في فاصل الإظلام نسمعُ صوت الراوي حتى يتمَ تغيير المنظر.
ص. الراوي : وهكذا تمت الصفقةُ العجيبة .. وانتقلت
البضاعةُ المباعةُ إلى بيتِ مالكِها الجديد
وتوالت الأحداثُ كما رُويت في سيرتنا المذكورة .. ليدورَ المشهدُ التالي في
دار السيد سعفان بن وصفان.
( إضاءة تدريجية - عدنان يجلسُ في ضيق .. بينما يقفُ الصبي يحملُ منشة يهشُ
بها عليه في رتابة )
( يزدادُ الضيق على عدنان فيهتف في
ضجر )
عدنان : كف عن
هذا .. أرجوك .. منذ أتيتُ إلى هذه الدار وأنت تضجرُني بهذه المنشة.
الصبي : أحافظُ على البضاعة من التلف كما أمرتني سيدتي.
عدنان : وأين
سيدتك لترفعَ عني هذا البلاء؟!
الصبي : لابد
أنها نائمة في غرفتها .. هذه ساعة قيلولتها.
عدنان : وسيدُك؟!
الصبي : لابد
وأنه خارجٌ بعد قليلٍ كعادته.
( يظهر سعفان من داخل الدار هاتفا )
سعفان : أنت أيها الصبي .. ماذا تفعلُ عندك؟!
الصبي : أهشُ
على البضاعة يا سيدي حتى لا يتراكم عليها الذباب.
سعفان : ذباب؟!
.. وهل عندنا ذبابٌ يا أحمق؟!
الصبي : (بروتينية) هذه أوامر سيدتي نفيسة.
سعفان : (هامسا في حذر) وأين هي الآن؟!
الصبي : نائمة
في غرفتها .. هل أوقظها؟!
سعفان : لا ..
لا تُقلِق نومَها ..
الصبي : عندك حق
.. نومُ الظالم عبادة ..
سعفان : سأخرجُ
لقضاءِ بعض الأشغال .. وانتبه جيدا لهذه الرأس فثمنها غالي.
الصبي : أعلمُ
يا سيدي .. ألفي دينار.
سعفان : (بفزع) اخفض صوتك أيها الغبي .. (ثم
بصوت مرتفع) نعم .. تمام .. تمام أيها
الصبي
.. مائتي دينار .. ( يغمغم ) عليه العوض ومنه العوض. ( يهم بالخروج )
( يستوقفه عدنان في ضيق بينما لازال الصبي يطارده بالمنشة في إلحاح مزعج )
عدنان : أنت
أيها السيد .. يا سيد سعفان .. يا سيد!
سعفان : (ضجرا) ماذا تريدُ يا صاحب الرأس المباعة؟!
عدنان : اسمي
عدنان.
سعفان : لا
يشغلني اسمك في شيء ..
عدنان : لكن
يشغلني أنا ..
سعفان : هذا شأنك .. ماذا تريد؟! .. أوجِز فلدي أشغال ..
عدنان : منذ أتيتُ
إلى هذه الدار وأنت تتجاهلُني .. والآن تخاطبُ هذا الخادم فقط دون أن
تعيرَني
اهتماما .. كأنني لستُ موجودا .. هل
اشتريتَ رأسي لتعاملني كشبح؟!
سعفان : أنا لم أشترِ شيئا .. أنت الآن ملكُ سيدة الدار
.. لا شأن لي بك .. ولا شأن لك بي.
عدنان : سيدة
الدار .. وأنت؟!
سعفان : أنا؟!
.. أنا هنا مجرد دودة. ( يخرج )
عدنان : ( دهشا ) دودة؟! .. من يرتضي لنفسه أن يكونَ في الحياة مجردَ
دودة؟!
الصبي
: (يطارده بالمنشة) كما ارتضيت أنت لرأسِك
أن تصبحَ مجردَ سلعة تباعُ في الأسواق.
عدنان
: ( في هم ) صدقت أيها الـ .. ( يبتر جملته
باهتمام ) حقا ما اسمك أيها الصبي؟!
الصبي : لا
أعرفُ لي اسما .. فمنذ ولدتُ وهم يدعونني بالصبي .. فلقد وعيتُ على هذه
الدنيا
وجدتني مجرد صبي .. صبي حلاق .. صبي جزار
.. صبي نجار .. صبي
حانوتي
.. صبي سيدي سعفان.
عدنان : وما هي حرفة سيدِك سعفان؟!
الصبي : لا أعرفُ له حتى الآن حرفة محددة .. فهو ثريٌ
ينفقُ ماله ببذخ ودون حساب ..
يفعلُ
أي شيء ليرضيَ زوجتَه المعتوهة .. لدرجة أنه اشترى لها رأسا لتلهو بها.
عدنان : أنت بلا
اسم .. وسيدُك بلا حرفة .. وأنا بلا رأس .. هكذا اكتملت أضلاعُ المثلث.
الصبي : أي
مثلث؟!
عدنان : مثلث العبث ..
الصبي : لا أفهم .
عدنان : ( بإعجاب وانبهار ) جميل .. رائع ..
الصبي : ( في ضجر ) ماهو الجميل ؟! .. الرائع ؟! .. كوني لا أفهم؟!
عدنان : كونك تدرك أنك لا تفهم فهذه أولُ خطوة في طريق
الفهم.
الصبي : لا أفهم .
عدنان : جميل ..
رائع ..
الصبي : أنت تهزأُ بي.
عدنان : لا أيها الـصبي .. دعنا أولا نبحث لك عن اسم
مناسب حتى يمكننا مواصلة الحديث.
الصبي : لا تجلب علىَّ المشاكل يا سيدي .. فأنا راضي
بحالي هكذا .. مجرد صبي.
عدنان : ( بعد تفكير ) سأدعوك خليل .
الصبي : لا خليل ولا برميل .. اتركني في حالي يا سيدي ..
لا تشغل بالك باسمي ..
عدنان : خليل
اسمٌ جميل .. يحملُ معاني الصداقة والوفاء .. وأنا أراك خلا وفيا.
الصبي : هذا من
حسن أخلاقك ولطفك ..
عدنان : ليست
مجاملة .. هذا ما لمسته من إخلاصك وتفانيك في خدمة سيدك.
الصبي : أشكرك
يا سيدي ..
عدنان : إذن
اتفقنا .. سأدعوك منذ الآن خليل ..
الصبي : (مستسلما ) خليل .. خليل .. (ثم هامسا
بتوجس) لكن ماذا لو علمت سيدتي بالأمر؟!
عدنان : وماذا
يضيرُها ؟! .. من حقك أن يكون لك اسم .
الصبي : حقي؟!
عدنان : نعم حقك .. ومن حقك أيضا أن يكون لك زوجة .
الصبي : زوجة؟!
عدنان : وأبناء.
الصبي : وأبناء؟!
عدنان : وما
المانع؟!
الصبي : صكُ الرِقِ الذي يملكه سيدي سعفان .. أنا لا
أملكُ أن أتحرر من سلاطة لسان زوجته
وسوءِ
معاملتها .. كيف لي أن أفكرَ في الزوجة والأبناء؟ تلك أحلامٌ مستحيلة يا سيدي.
عدنان : تلك هي أبسط
حقوقك يا خليل .. فكِر في الأمرِ جيدا .. لن تجده مستحيلا.
الصبي : أفكر؟! .. (يضحك بشدة) أفكر ؟! .. لا يا سيدي .. هذا
هو المستحيلُ بعينه .. أفكر؟!
عدنان : وما
العجيبُ في ذلك؟! .. أليس لك عقل؟!
الصبي : ( يتحسس رأسه ) الحمارُ له عقل .. التيسُ
له عقل .. الخروفُ له عقل.
عدنان : أنت لم
تفهم قصدي ..
الصبي : هل
تحسبني جاهلا ؟! .. أعرف ما تقصدُ جيدا .. تقصد ذلك اللحمَ الرخوَ .. الذي
يُقلى في الزيت
.. ونأكله شهيا وهو متبلٌ ومملحٌ وراقدٌ فوق قطع البقدونس الخضراء.
عدنان : فرقٌ كبير
بين المُخ والعقل .. العقل سمة الإنسان .. أنت بدون العقل لا شيء ..
الصبي : أنا فعلا لا شيء .. أنا دودة مثل سيدي سعفان ..
بل أنا صبي دودة .. الآن عرفتُ
مهنتي
الجديدة .. صبي دودة.
عدنان : لا تكن
سلبيا .. أنا أغذيك بطاقة إيجابية أيها الأبله.
الصبي : تغديني بماذا؟! .. أنا أريدُ أن أتغذى بما يرُمُ
العظمَ ويملأ المعدة .. حلة محشي ..
طاجن
عكاوي .. كوارع .. أما أفكارك هذه فلا تسمنُ
ولا تغني من جوع.
ص. الراوي : وهنا ضجت الدارُ بصوتٍ أنثوي زاعق .. يهتفُ
في صخبٍ غاضب.
( يسمع صوت نفيسة من الداخل تنادي في غضب )
نفيسة : أنت
أيها الصبي .. أين أنت يا بعوضة؟!
الصبي : (يتظاهر بالانشغال بالهش على عدنان ) أنا هنا يا سيدتي .. أهشُ الذباب عن
البضاعة.
عدنان : (مستنكرا) بعوضة ؟! .. سيدكُ دودة؟! ..
وأنت بعوضة؟!
الصبي : اصطبر
وسوف تمنحك لقبا يليقُ بعقلك الموزون يا صاحبَ الرأسِ المباعة.
ربما
منحتك لقب صرصار أو برغوث .. فهي تعشق الحشراتِ إلى حد الجنون.
( تظهر نفيسة وقد تزينت في مبالغة
واضحة وارتدت ثيابا زاهية الألوان تُظهرُ مفاتنَها )
نفيسة : أنت أيها الصبي ..
الصبي : أمرك يا سيدتي .
نفيسة : أين سيدُك؟!
الصبي : خرج كعادته في ساعة القيلولة حتى لا يزعجَك يا
سيدتي .
نفيسة : ( تتأمل عدنان برغبة ) خيرا فعل .. (
ثم للصبي بضيق ) وأنت؟!
الصبي : أنا ماذا؟!
نفيسة : اذهب
إلى العطار .. في آخر السوق .. وأحضر منه بخورا .
الصبي : البخور
يملأ الدار يا سيدتي .
نفيسة : فسد ..
لم يعد يصلح لشيء ..
الصبي : وهل يفسدُ البخور؟!
نفيسة : ( بحدة ) قلت لك فسد.
الصبي : ( مذعنا ) فسد .. فسد .. وأنا مالي .
نفيسة : ( تُلمح لعدنان في مسكنة ) بات عديمَ
النفع مثل سيدك.
الصبي : (متمتما ) أنتِ أدرى ..
نفيسة : ( تتودد إلى عدنان باكية ) يتركني وحدي ..
كل ليلة .. ولا يعودُ إلا مطلع الفجر.
عدنان : ( مواسيا ) غلطان .. وأين يقضي ليله؟!
نفيسة : في
الخمارة .. ليعودَ سكرانا .. ذاهب العقل .. لا يكاد يفرقُ بين زوجته وبين هذا
الصبي.
عدنان : لا حول
ولا قوة الا بالله .
الصبي : ( في ملل ) هل أحضرُ شيئا آخر غيرَ البخور
يا سيدتي ؟!
نفيسة : ( والهة بعدنان ) دكر .. ( مستدركة ) لبان
دكر .
الصبي : ( وقد فهم ما تنوي ) دكر؟!
عدنان : ( وقد أصابته الريبة ) انتظر .. سآتي معك
.. لا تتركني هنا وحدي..
نفيسة : ( تعترض طريقه ) لا تخف .. سأكونُ معك.
عدنان : دعيني
أذهب معه يا سيدتي .. فأنا خبيرٌ في العطارة .
نفيسة : لا .. لا
أطيقُ البقاء في الدار وحدي .. لا أطيق.
الصبي : أي طلباتٍ أخري يا سيدتي ؟!
نفيسة : ( تفكر ) بعد أن تفرغ من العطار .. اذهب
إلى الجزار .. وانتظر حتى يذبحَ ذبيحة
جديدة
.. طازة .. ( متفرسة في عدنان ) فأنا لا أشتهي إلا اللحمَ الطازج ..
الصبي : ( مستنكرا ) هل أنتظرُ الجزار حتى يذبح؟!
نفيسة : نعم
أيها الغبي .. ( في ميوعة ) يذبح .. ويسلخ .. ويُشَّفي .. وأحضر منه رطلين ..
بل
ثلاثة .. من الفخذة .. هل فهمت؟!
الصبي : لكن هذا سوف يستغرقُ وقتا طويلا !
نفيسة : وهل استعجلتك يا أحمق؟! .. اذهب ولا ترجع إلا
بما طلبتُ منك .. هيا ..
الصبي : أمرُك يا سيدتي ..
نفيسة : أغلق بابَ الدار وراءك جيدا .. من الخارج .
الصبي : حاضر ..
( يخرج )
عدنان : (ينادي متوسلا في ريبة ) خليل .. انتظر يا
صديقي .
نفيسة : وأنا سأُحكِمُ
إغلاقه من الداخل ..
عدنان : (مرتابا ) لماذا يا سيدتي ؟!
نفيسة : إمعانا
في الحيطة ..
عدنان : ولم
الحيطة .. نحن في عز النهار؟!
نفيسة : خائف؟!
عدنان : ( متوجسا ) أنا ؟! .. وهل يوجدُ ما يدعو للخوف؟!
نفيسة : من سيدك
سعفان.
عدنان :
الدودة؟! .. وهل هناك عاقل يخافُ من دودة؟! .. (لنفسه) إنما أخاف من العقربة.
نفيسة : اطمئن هو لا يرجعُ عادة في هذا الوقت .. ( تهجم عليه )
عدنان : ( يفلت منها في خوف ) ماذا تفعلين يا
امرأة ؟!
نفيسة : ( بدلال ) هيْت لك ..
عدنان : ( يفرُ قافزا إلى صالة الجمهور ) أعوذ
بالله من الخبث والخبائث ..
نفيسة : خبائث؟! .. هل رأيتَ شيطانا يا رجل؟!
عدنان : إن ما تدعوني إليه يا سيدتي أخبث من أفعالِ
الشياطين .. وأنا أخافُ الله.
نفيسة : هل تظنُ نفسك يوسفَ الصديق؟!
عدنان : وهل تحسبين نفسك امرأة العزيز؟! .. ( ينهرها في حنق ) اعقلي يا حرمة..
نفيسة : ( تطارده ) أنت الآن ملكي ..
عدنان : ( مصححا ) رأسي فقط.
نفيسة : كما
تريد .. لنبدأ بالرأس .. أعطني شفتيك .. ( تمط شفتيها ليقبلها )
عدنان : ما هذه
الورطة ؟! .. يا سيدتي .. ما عنيتُ برأسي هذا المعنى القبيح .. لكن عنيتُ
الفكرَ
والعقل .
نفيسة : عقل ؟! .. وهل تركت في رأسي عقل؟!
عدنان : لا يجوزُ شرعا يا سيدتي .. أنت امرأة متزوجة .
نفيسة : هل
اشتريتُ رأسَ قديس؟!
عدنان : بل رأسَ مفكرٍ يا سيدتي ..
نفيسة : ( تتنهد في لوعة ) وهل أرهقني إلا
التفكير؟!
عدنان : لا أعني تلك الأفكار المراهقة .. يا سيدتى ربنا
يهديكي .
نفيسة : لستُ ملاكا ..
عدنان : وأنا لستُ كما تظنين .. أنا رجلٌ متزوج .. ولي
عيال ..
نفيسة : وماذا يمنع ؟!
عدنان : أنا أحبُ زوجتي.
نفيسة : أنت الآن ملكي ..
عدنان : سأصرخُ وألمُّ الجيران.
نفيسة : هيهات .. لن يخلصك مخلوقٌ مني .
( يفر منها هاربا وهو يصرخ ويلوح بيده في فزع .. تطارده في الصالة )
عدنان : يا ناس .. يا عالم .. أدركوني .. أغيثوني من تلك المرأة المجنونة .. أدركوني
..
نفيسة : لن تفلتَ مني ..
عدنان : أدركوني ..
تستمر المطاردة لحظات حتى يسود
إظلام
المشهد الثالث
بيت سعفان
ص. الراوي : واستطاع السيدُ عدنان أن يُفلتَ من هذا
المأزقِ بصعوبة .. ليفرَ من براثن
تلك المرأة اللعوب .. ويهربَ منها بأعجوبة.
( نفسُ المنظر السابق - سعفان
يذرعُ المكان في غضب – نفيسة تجلسُ باكية
في مسكنة مفتعلة وبكاء تمثيلي مبالغ فيه - الصبيُ يقفُ على جانب المسرح يتابع
الاثنين في لا مبالاة )
سعفان : ( في ثورة ) هرب؟! .. كيف؟!
نفيسة : قفز من
النافذة .. من الطابق العلوي.
سعفان : وأموالي؟!
نفيسة : أهذا ما
يهمك ؟!
سعفان : ( قلقا ) طمئنيني .. هل سقط على ظهره .. (
يلطم على رأسه ) أَمْ على أُمِّ رأسه؟!
نفيسة : (باكية في حسرة ) بل واقفا ..
سعفان : ( في دهشة ) واقفا ؟!
نفيسة : ( مستدركة ) كالقرد .. سقط واقفا على
قدميه .. بعد أن قطعَ أنفاسي من المطاردة.
سعفان : الوغد .. بعد أن نال غرضه؟!
نفيسة : ( نائحة بحسرة ) ليته نال .. ليته نال .. لقد
فر مذعورا مثل الفأر.
سعفان : مذعورا؟! .. ( بريبة ) من الذي كان يطاردُ الآخر يا
امرأة؟!
نفيسة : ( مرتبكة ) ها؟! .. هو .. كان كالوحش
الكاسر .. ذئبا شرسا في هيئة إنسان ..
سعفان : وما الذي جعله يفرُ من النافذة؟! .. انطقي يا
امرأة.
نفيسة : أصابه الذعرُ .. حينما صرختُ مستغيثة بالجيران.
سعفان : ( منصرفا إلى الصبي في حنق ) وأنت أيها
اللعين .. أين كنت ليحدث كل هذا؟!
الصبي : (في برود يتشدقُ بلبانة ) كنتُ أحضرُ
اللبان.
سعفان : لبان؟!
الصبي : الدكر ..
سعفان : دكر؟!
الصبي : ثم أنتظرتُ عند الجزار .. حتى ذبح .. وسلخ .. وشفَّى
.. ووصل إلى لحم الفخذين ..
سعفان : أيها الأحمق .. تغيبُ عن الدار كل هذه المدة
وتترك سيدتك المسكينة .. كسيرة
الجناح
.. وحدها مع ذلك الذئب البشري؟!
الصبي : هي من أمرتني بذلك .. كما أن الرجلَ كان لطيفا
للغاية ..
نفيسة : لطيفا
؟! .. وما أدراك أنت يا بعوضة؟!
الصبي : على
العموم لقد نفذ بجلده.
سعفان : ماذا تقول؟!
الصبي : لا شيء يا سيدي .. أقول لقد فر بنقودك .. الألفي
دينار ..
سعفان : اصمت أيها الأحمق .. المال لا يعنيني في شيء ..
كل ما يغضبني هو فزع نفوستي
حبيبتي
.. فداها المائتي دينار ..
نفيسة : ( صارخة كالأطفال ) لابد أن تعيده إلى
الدار .
سعفان : ( ملاطفا ) طبعا .. طبعا .. ( ثم
منتبها في استنكار ) أعيدُ من؟!
نفيسة : ذلك
الملعون المدعو عدنان بن فهمان .
الصبي : نعم .. لنستردَ النقود .. الألفي ديـ ..
سعفان : ( مقاطعا في غيظ وهو
يكتم فم الصبي ) اصمت أنت يا غبي .. هل طلب أحدٌ
مشورتك؟!
الصبي : واجبي أن أنصحك يا سيدي ..
سعفان : وفر نصائحك لنفسك ..
الصبي : أنا غلطان .. ( ثم بتردد ) على الأقل يُعطينا البضاعة
.. رأسَه.
نفيسة : ( صارخة بحرقة ) لا .. أريده كاملا .. الرأسُ
وحدها لا تنفع.
الصبي : أرأيت يا سيدي .. مسألة مبدأ.
سعفان : ( حائرا ) سأبلغُ عنه رجال الشرطة .
نفيسة : شرطة؟! .. لا .. ابحث عنه بنفسك .. لابد أن تثأر
لشرفك .. أين مروءتك يا رجل؟!
أين
نخوتك؟!
سعفان : شرفي؟! .. أوصل الأمرُ إلى هذا الحد؟! .. سأفتكُ به ..
سأمزقه إربا .. الملعون ..
سأجعله
عدمان ابن ندمان .
نفيسة : ( باستجداء ) لا .. لا تؤذه .. أرجوك .
الصبي : ( بسخرية ) يا حنينة ..
نفيسة : فقط .. احضره
إلى هنا .. ثم اترك الباقي لي .
الصبي : سيكونُ هذا أبشعَ عقاب .. فلنترحم على روحه من
الآن . ( يرفع كفيه بالدعاء )
سعفان : ( بعنترية ) أيها الصبي ..
الصبي : أمرك يا سيدي.
سعفان : احضر سيفي ..
الصبي : ( يمنحه سيفا بالقرب منه ) جاهز ..
سعفان : ( يباهت بسرعة استجابة الصبي فتفتر عنتريته
وترتعش يده ) وأحضر حبلا ..
الصبي : ( يمنحه جنزيرا ) بل جنزيرا .. حتى لا يُفلتَ
منك.
سعفان : (يجمع رباطة جأشه دون جدوى ) واتبعني.
الصبي : إلى أين
؟!
سعفان : لنحضرَ
هذا الشقي.
الصبي : ( معترضا ) وأتركُ سيدتي وحدها في هذه
الحالة؟! .. مسكينة؟! .. منهارة ؟!
كسيرة
الجناح!!
سعفان : ( في ضيق ) هيا أيها الصبي ..
الصبي : لا .. اذهب انت.
سعفان : وحدي ؟!
الصبي : لست وحدك .. معك السيفُ .. ومعك الجنزيرُ ..
ومعك ربنا ..
إظلام
المشهد الرابع
ص. الراوي : كان بمقدور السيد عدنانُ ..
بعدما فرَ من بيت السيد سعفان .. أن يهرب برأسه
المباعة في أي مكان .. ويختبئ
بها عن العِيان .. لكنه لمبدأٍ راسخٍ في نفسه ..
آثر أن يبحثَ عن السيد سعفان .. ليرد
له ثمن البضاعة .. وكأن شيئا ما كان
فاتجه
من فوره إلى الحانة .. حيث توقع أن يجد سعفان ..
الحانة
( مجموعة من السُكارى يترنحون في سُكر – يتحركون في غوغائية ومجون – راقصة بدينة عديمة الموهبة تتمايل في فوضوية
على نغمات أغنية شعبية شهيرة تُعزف بطريقة رديئة تتناسب مع أجواء المشهد - عمار الخمار يطوفُ عليهم بكئوسِ الشراب يبدو
الوحيد المنتبه فيهم – يدخل عدنان متلصصا
يراقبُ الجميعَ في دهشة – يبحث يمينا ويسارا كالتائه في حيرة – ينتبه إليه عمار
فيستوقفه في صرامة )
عمار : أنت ..
ماذا تريد؟!
عدنان : أبحثُ عن شخصٍ ربما يكونُ أحدَ زبائنِ هذه
الخمارة .
عمار : هذه ليست
خمارة .. اسمها حانة.
عدنان : وما الفرق؟!
عمار : الخمارات لا تقدمُ إلا نوعا واحدا من الخمر
الرديء .. أما الحانة فتقدمُ قائمة بديعة
من
المشروبات الفاخرة .. وأنواعا شتى من المَزات .. مصحوبة بوصلاتٍ من الفن
الراقي ..
( تزداد الموسيقى صخبا ) والطرب الأصيل .. ( يرتفع صوت الغناء
الرديء )
والرقص
البديع .. ( تهتز الراقصة في شكل مضحك ) .. كما ترى.
عدنان : وجهة
نظر .. تنطلي على زبائنك المخمورين.
سكران1 : ( معترضا وهو يترنح ) من فضلك. . لسنا
مخمورين .
عدنان : واضح.
سكران2 : نحنُ سكرانون ..
عدنان : اعذروا
لي جهلي وقلة إدراكي .
عمار : تفضل .. تفضل
يا سيدي .. جرب مانقدمه من نبيذٍ فاخر.
عدنان : شكرا ..
أنا لا أشربُ الخمر.
سكران2 : ( بسخرية ) لماذا؟! .. لم تُفطم بعد؟!
سكران1 : ربما يخشى غضب أمه .
سكران2 : ( يتلفت في حذر ) أو زوجته !
عدنان : ( في ضيق ) بل أخشى أن أصبحَ مثلكما .
سكران1 : ومالنا ؟!
عدنان : لا تعرف رأسَك من قدميك .
سكران1 : وهل هذه معضلة .. تلك هي رأسي أعلمها بالعمامة .. وهاتان قدماي .. أعلمهما
بالخُفين.
عدنان : وماذا لو ضاعت العمامة؟!
سكران1 : تضيعُ معها رأسي .. وهذا لا يهم .. فقد أتيت
هاهنا كي أرتاح من هذه الرأس
المزعجة .. لكن الأخطرَ لو ضاع الخفان .. ساعتها لن أستطيعَ العودة إلى
داري.
عدنان : إذن
.. جعلت عقلك في خُفيك.
سكران1 : أليس هذا أأمن وأضمن؟! .. يحملني خفاي إلى
الدار كل ليلة دون أن أبذل أي
جهد .. لأستيقظ في الصباح أجدني نائما
في فراشي وهما راقدان إلى جواري
كحارسين أمينين .
عدنان :
الخفين؟ا
سكران1 : نعم .. ( ثم متأملا عدنان في دهشة ) مالك تترنح
هكذا؟! .. اثبت يا رجل.
عدنان : أنت
الذي تترنح ..
سكران1 : أنا ؟! .. أترنح؟! .. يبدو أنك تخلط الأمورَ يا
سيدي .. فلنشهد هذا السيد المحترم
( مشيرا لسكران2 ) من فضلك .. هل تراني
أترنح؟! .. أم هذا الرجل المترنح؟!
سكران2 : بل هو الذي
يترنحُ مثل المخمورين السكرانين .. ( يقدم كأسا لعدنان ) خذ .. جرب
هذا
كي يصلب عودك ويمنحك ثباتا وثقلا على هذه الأرض الهائجة المائجة التى
لا
تكفُ عن الدوران.
عدنان : لا ..
شكرا .. لم آت إلى هنا لأوقف دوران الأرض .. بل أتيتُ للبحث عن السيد
سعفان
.. هل تعرفه يا سيدي؟!
سكران1 : لا أعرفه
..
عدنان : ( لسكران2 )
وأنت يا سيدي؟!
سكران1 : هل تعرفُ اسم أمه؟!
عدنان : ولا اسم أبيه .. ( كمن تذكر ) لكن زوجته تناديه بالدودة ..
سكران2 : ( يتلفت في رعب ) زوجته؟!
عدنان : نعم
.. اسمها نفيسة .
سكران2 : الحمد
لله .. هذا ليس اسم زوجتي .. كما أنها لا تناديني بالدودة .. أبدا .. أبدا.
عمار : (يتدخل في ضيق ) دودة ؟! .. هذه حانة
محترمة يا سيد .. لا يدخلها دودٌ ولا
بعوض.
عدنان : لكنه أحدُ زبائنك الدائمين.
عمار : زبائني ناسٌ محترمون .. من علية القوم ووجهائهم.
سكران1 : ( منتفخا في فخر وهو يترنح ) نعم .. نعم ..
عدنان : تقصدُ
سفهاء القوم .. وأراذلهم .
سكران2 : نعم .. نعم ..
عدنان : أرأيت
؟! .. إنهم لا يميزون المدح من الذم!
عمار : سماحة ..
وسعة صدر ..
عدنان : بل غفلة .. وذهاب عقل.
عمار : وهذا هو
المطلوب ..هم يدفعون المال لينزعوا ما في نفوسهم من ضغائن.
عدنان : نزعُ
الضغائن من الصدور يكون برباطة الجأش وضبط النفس .. لا بغياب العقل.
سكران1 : مظبوط .. مظبوط ..
عمار : ( غاضبا ) أنت تفسدُ عليّ زبائني ..
عدنان : وأنت
تفسدُ عليهم حياتهم ..
عمار :
أنا؟! .. أنا أمنحهم البهجة والنشوة .. والسرور.
عدنان : سرورٌ زائف .. ومتعة وهمية.
عمار : وهل
اشتكوا لك ؟! .. هم يأتون طواعية .. لم يجبرهم أحد.
عدنان : لأنك
تخدعهم ببضاعتك الوهمية .. لو كنت أمينا لكتبت على باب الخمارة
عمار : ( محتدا ) اسمها حانة .
عدنان : لكتبتُ على باب المخروبة بخطٍ واضح .. ادفع عشر
دنانير كي تُذهبَ عقلك ..
وادفع
عشرين .. لتصبح أنت ونعليك سواء.
عمار : هذه
إهانة لا أقبلها لزبائني المحترمين.
عدنان :
المحترمون لا يبذلون المال لفقد عقولهم ..
سكران2 : ( مترنحا ) صحيح ..
عدنان : هذا
الرجل الغير المحترم يوافقني الرأي .
سكران2 : ( مؤمنا بالايجاب ) نعم .. نعم .
عمار : دع زبائني
وشأنهم ..
عدنان : ( لسكران2 متجاهلا عمار ) أليس الأفضل يا
سيدي أن ترحلَ من هنا بما بقي لديك
من
ثمالة وعي .. وفضلة إدراك .. حتى تعرف يومَك من غدِك؟!
سكران2 : تمام .. حان وقتُ الرحيل .. قبل أن تنتبه
الملعونة زوجتي لغيابي عن الدار.
عمار : إلى
أين يا سيدي؟!
سكران2 : إلى الدار.
عمار : لا زال
الليلُ طويلا .. ولازال لدينا المزيدُ من المفاجآت والمسرات.
سكران2 : لقد اكتفيتُ بهذا القدر .. لا تقلق .. سآتي
غدا.
عمار : كما
تشاء .. مرحبا بك في أي وقت. (
يمد يده طالبا النقود )
سكران2 : أهلا وسهلا .. ( يمد يده للمصافحة ويهم بالخروج – يستوقفه
عمار في اعتراض )
عمار : أنا لا
أريدُ مصافحتك .. بل أريدُ ثمن ما شربته من نبيذ.
عدنان : يارجل
.. تريد مالا مقابل ما سلبته من وعي ؟!
عمار : أريدُ
ثمنَ الخمر.
سكران2 : انتظر
.. (
يحاول اخراج صُرة النقود مترنحا )
عدنان : لا تدفع
يا رجل ..
سكران2 : أنا أدفعُ له كلَ يوم.
عدنان : كلَ يوم ؟!
سكران2 : ( مؤكدا ) كلَ يوم .
عدنان : المفروض
تطلب تعويضا لا أن تدفع.
عمار : ماذا تقولُ يا رجل؟!
عدنان : ذلك هو العدل والمنطق ..
عمار : أيُ منطق
؟! .. تريد أن تُقلِب عليَّ زبائني ..
سكران2 : ( في حيرة ) أدفعُ .. أم لا ؟!
عدنان : أنا لو
مكانك لن أدفعَ .. حتى يردَ لي ما سلبني من العقل .
سكران2 : صدقت .. لن أدفع .. ( يعيد المال ويهم بالرحيل )
عمار : ( يعترضه ) إذن ردَّ لي ما شربت من الخمر.
سكران2 : هذا أمرٌ سهل للغاية .. ( يهمُ بالتقيؤ على الأرض - يستوقفه عدنان )
عدنان : لا ..
ليس هنا .. بل في ذلك البرميل . ( يتجه سكران2
ليتقيأ في برميل قريب )
عمار : ماذا فعلت يا أحمق؟!
سكران2 : رددتُ إليك بضاعتك .. ها هي داخل البرميل .. ( يخرج مترنحا )
( بينما يتجه عمار ليتأمل ما في
البرميل ضاربا كفا بكف في غضب )
عمار : بضاعتي
.. النبيذ المعتق .. يا خراب بيتك يا عمار !
عدنان : ( مشيرا لسكران1 ) وأنت أيها السيد.
سكران1 : أنا؟! .. ماذا؟!
عدنان : ألن تكف عن الشراب .. وتلوذ بما بقي لديك من
عقل؟!
سكران1 : لا تخف عليّ .. لازال خفاي منتبهين .. لم
يبلغهما تأثيرُ الخمر .
عدنان : خفاك لا يعرفان الطريق .. إنما يقودك ما تخزن
في عقلك الباطن من ذاكرة واهنة
سكران1 : حقا؟!
عدنان :
بمقدوري أن أثبت لك؟!
سكران1 : كيف؟!
عدنان : اخلع خفيك ..
سكران1 : لا .. تلك مخاطرة كبرى ..
عدنان : لا تخف .. اخلعما ..
سكران1 : ( بعد تردد ) على مسؤليتك ؟!
عدنان : على مسؤليتي ..
سكران1 : لنرَ ..
ها هما .. ( يخلع خفيه بخوف وحرص شديدين )
عدنان : مُرْهُما
أن يذهبا إلى الدار ..
سكران1 : وإن ذهبا؟! .. كيف سأعودُ وحدي؟! .. لا .. لن أفعل ..
عدنان : لو ذهبا سأصحبك أنا بنفسي إلى الدار .. اطمئن ..
سكران1 : وعد؟! ( في
توجس )
عدنان : وعد ..
سكران1 : ( يخاطب الخفين آمرا ) اذهبا إلى الدار ..
اذهبا .. إني آمركما أن تذهبا ..
( ثم صارخا ) جو تو هوووووووووم .
عدنان : أرأيت؟! .. إنهما مجرد خفين .. أصمين .. أبكمين
.. عاجزين .. لا يقدران على
السير
وحدهما .. لابد من عقل لتوجيههما .
سكران1 : ( ينحني يتأملُ الخفين ) يا للمصيبة .. لقد
فسد الخفان .. فقد الخفان ميزتهما ..
كيف
سأعودُ الآن إلى الدار؟!
عدنان : كما تعود كلَ ليلة .
سكران1 : وكيف أعودُ كلَ ليلة؟!
عدنان : بما
بقي لك من ذاكرة محفورة في عقلك الباطن ..
سكران1 : ( يتحسس بطنه في عجب ) بطني العاقل!!
عدنان : لا يا
سيدي .. بل عقلك الباطن .. ( يشير إلى رأسه ) الذي يسكنُ هنا في رأسك.
سكران1 : ( يمسك رأسه في حيرة ) وما العملُ الآن؟!
عدنان : تفرُ من
هذه الخمارة وتنجو بما بقي لديك من وعي ..
سكران1 : وعي؟!
عدنان : نعم
.. الوعيُ قيمة لا يدركها الغافلون ..
سكران1 : عندك حق .. سأفِر .. ( يرتدي خفيه ويتجه نحو الخارج ) هيا يا خفي المنكوبين ..
فرا
بي بأقصى سرعة .
عمار : ( يعترضه صارخا ) إلى أين؟!
سكران1 : أفر ..
عمار : بالحساب؟!
سكران1 : لا .. بهذين الخفين.
عمار : ادفع
أولا ..
سكران1 : ( لعدنان ببلاهة ) هل أدفع؟!
عدنان : لا
تدفع .. بل هو الذي يجبُ أن يدفع لك تعويض
.
سكران1 : صدقت .. يكفي فسادُ الخفين .. آه يا خفي
المشلولين العاجزين .. ( يخرج نائحا )
عمار : انتظر
يا رجل ..
سكران1 : (لا يلتفت إليه ) الخفين أصابتهما لعنة الخمر .. ألا لعنة الله
على الخمر .
(يخرج باكيا خفيه )
عمار : ( يوجه عدنان غاضبا ) خربت بيتي ..
عدنان : وأنت خربت عقولهم ..
عمار : لن أتركك حتي تدفعَ حسابَهم .
عدنان : لا أملكُ مالا ..
عمار : إذن سأقتلك
أيها الأفاق الدعي .. ( يهجم عليه )
عدنان : ( يفلت منه ) أنت الأفاق الغشاش .. تبيع
خمرا مغشوشا ؟!
عمار : مُعَتق
.. ( وهو يعيد الكرة للهجوم على عدنان )
عدنان : ( في مراوغة ) في براميل الطرشي؟!
عمار : سأقتلك ..
عدنان : وتُقدم لزبائنك فنا هابطا .. مستغلا غفلتهم ؟!
عمار : سأفتكُ
بك ..
عدنان : وما هذه الراقصة البائسة؟!
عمار : إنها
زوجتي ..
عدنان : زوجتك؟! .. يا عديم النخوة والمروءة..
عمار : ( يفشل في الامساك به ) ما الذي ألقى بك
عليَّ في هذه الساعة المنحوسة؟!
عدنان : السيد سعفان .. الشهير بالدودة ..
عمار : سأسحقك
بحذائي هذا .. أنت وكل معارفك من الديدان ..
عدنان : ( يبحث في الحانة وهو يفر من مطاردة عمار
مناديا ) يا سيد سعفان ..
أين
أنت يا سيد سعفان؟! .. يا سيد سعفان !!
عمار : سأقتلك ..
( مطاردة بين عمار وعدنان يفرُ بعدها عدنان هاربا )
إظلام
المشهد الخامس
ص. الراوي : وكما ورد في المتواتر من سيرة بني فهمان ..
أن السيد عدنان .. فر من
عمار الخمار ليجدَ نفسه في التكية القريبة .. فاندس مختفيا بين الدراويش
لينجوَ من بطش الخمار .. الذي ظل يطارده في إصرار.
التكية
( مجموعة من المريدين من دراويش التكية – أناشيد صوفية – يتمايلون ويهتزون
عليها في وجدٍ وانجذاب – أجواء صوفية – بخور وأنوار وزينات معلقة ورايات – يظهر
فضلان بين الدراويش يصرخ في انجذابٍ مبالغ فيه )
فضلان : مدد
.. مدد يا أهل الخطوة .. مداد يا أهل الحظوة .. مداااااد ..
درويش1 : امنحنا البركة يا سيدنا ..
درويش2 : بركاتك يا مولانا الشيخ ..
فضلان :
البركات .. البركات يا أهل العلا أولياء الله الصالحين .. البركات الطيباتُ ..
نفحة
من
رضاكم للضعفاء المساكين.
درويش1 : الله حي .. الله حي ..
فضلان : ( صارخا بدروشة ) حيييي ..
درويش2 : مداااااد .
فضلان : ( يهتز في انجذاب
) مدد .. مدد .. مدد .. مداااااد ..
(يظهر عدنان مهلهل الثياب يلهثُ في تعب – يدركه عمار – يبحث عنه – فيندس عدنان وسط الدراويش يهز رأسه معهم – يصطدم
عمار بدرويش 1 الذي يصرخ )
درويش1 : حيييي ..
عمار : عفوا يا سيدي ..
درويش2 : مدد .. مدد ..
عمار : لا
تؤاخذني .. يا مولانا الدرويش.
فضلان : مدااااد ..
عمار : ( يبحث عن عدنان في غضب ) أين اختفى هذا
الشقي؟!
فضلان : ( يلمح عمار فيمسك بتلابيبه ) أنت؟!
عمار : عفوا يا مولانا الشيخ فضلان ..
فضلان : ( في غضب ) عمّار الخمار ؟! .. ماذا تفعل
في التكية؟!
عمار : أتيتُ خطأ يا شيخ فضلان.
فضلان : لا
يخطيء من يقصدُ باب الأولياء .. بل أخطأ من ضل طريقه إلى دار المجون
والسُكرِ
والعربدة ..
عمار : ( في ضيق ) الله يسامحك.
فضلان : ( في غضب ) ماذا تفعل في التكية يا
ملعون؟!
عمار : أطاردُ لصا أفاقا .. تسلل إلى هنا .. يُدعى
عدنان.
فضلان : لا يأتي هنا إلا الصالحين .. ليس لدينا أفاقون
.. ابحث عنه بعيدا .. وابعد رجسك عنا
عمار : رأيته بعيني يدخل التكية.
فضلان : ربما جاء ليتوب .. هل تريدُ أن تقطعَ عليه طريق
التوبة؟!
عمار : بل جاء هاربا من بطشي .. فاندس مختبئا بين
دراويشك. ( يبحث بين الدراويش )
فضلان : دع
دراويشي وشأنهم .. واخرج حالا من هنا.
عمار : لن أخرج
حتى أقبضَ عليه .
فضلان : قلت اخرج يا خمار .. رائحة الخمر تفوحُ من ملابسِك
.
عمار : ( في تحد ) وإن لم أخرج ؟!
فضلان : جنيتَ على نفسِك .. ( يصرخ بانجذاب ) يا أهلَ الله .. يا عُمَّارَ
بيوتِ الله .. يا
دراويش التكية .. يا أولياء .. يا أتقياء .. هذا عمارُ الخمار .. جاء إلينا
بذبانيته وشياطينه .. جاء مخمورا
يعيثُ
فسادا في تكيتنا الشريفة الطاهرة.
( ينتبه الدراويش – يحيطون بعمار وينهالون عليه ضربا صارخين )
الدراويش : اخرج يا فاسق .. ارحل يا ماجن .. اذهب يا
ملعون .. عليك لعنة الله .. يا زنديق
يا فاجر ..
( يوسعونه ضربا فيفر عمار خارجا في ألم وضيق – يصرخ مهزوما في غيظ )
عمار : سأنتظرك
بالخارج يا عدنان .. لن أغفل عن باب التكية .. لن تفلتَ مني يا شقي ..
سأجتثُ
رأسَك من فوقِ كتفيك .. ( يخرج وهو يعرج في ألم )
عدنان : ( يظهر متهكما ) رأسي ؟! .. لم تعد ملكا لي ..
فضلان : (يفاجأ بعدنان فيصرخ في دروشة ) مدد ..
عدنان : ( ممتنا ) الحمدُ لله .. أشكرك أيها الشيخُ
الصالح .
فضلان : فضلان
.. اسمي فضلان ..
عدنان :
فضلان؟!
فضلان : ( يهز رأسه في دروشة ) نعم .. فضلان .. لا
فضلا واحدا .
عدنان : وأنا
عدنان .. ليس لها مفرد .. عدنان ابن فهمان .
فضلان : (متفيقها بدروشة ) أما الفضلُ الأول .. فهو الفضلُ في
استقطاب الموعودين ..
الدراويش : ( في انجذاب ) مدد .. مدد ..
فضلان : وأما
الثاني .. فهو الفضلُ في الوصل .. وفي إدراك الملهوفين.
الدراويش : ( كالسكارى ) حييي ..
فضلان : وفي
البدء وفي الختام .. وأولا .. وقبل أي كلام .. الفضلُ له .. هو وحده ..
صاحبِ
الجودِ والكرم ..
الدراويش :
مدااااد
فضلان : سابغِ
الآلاء والمنن ..
الدراويش : مدااااد
فضلان : مانحِ
العطايا والنعم .. ( ثم
يفرد كفه منتظرا وهو يهز رأسه في دروشة )
عدنان : ( متسائلا في دهشة ) نعم؟!
فضلان : نَفَحَة للأولياء .
عدنان : معذرة
.. لا أملكُ مالا ..
فضلان : لا تكن بخيلا .. ما نقص مالٌ من صدقة.
عدنان : صدقني
.. هذه أول مرة أدخل التكية .
فضلان : محروم
..
عدنان : رغم
أني أمرُ عليها كل يوم .
فضلان : غفلان
..
عدنان : عندك حق
.. اغفر لي غفلتي يا سيدي .
فضلان : الفضلُ لصاحبِ الفضل .. كل شيء بأوان .. هات
النفحة.
عدنان : لا أملكُ شيئا صدقني.
فضلان : مستور .. وغيرُك عُريان ..
عدنان : عندك حق
.. لا أملك إلا الستر .. نعمة وفضل من الرحمن.
فضلان : بل أقصدُ هذا الثوبَ الكتان ..
عدنان : هذا الثوبَ
البالي؟!
فضلان : يدفيءُ
بردان .. ويكسو عُريان.
عدنان : ( يخلع ثوبه في هدوء ) لو ينفعكم ليس لدي
مانع .. كله لله.
فضلان : مداااد .. مدد .. مدد . مدد .. فليذهب لصندوق
النذور ..
( يطوي الثوب في يديه ويلقيه في صندوق ضخم بالقرب من باب التكية )
عدنان : ( يتأمل الثوب في أسف ) وليخلفُ اللهُ خيرا.
( تدخل امرأة تبحث عن فضلان – ما ان تراه حتى تهرول إليه تقبل يديه )
المرأة : بركاتك يا شيخ فضلان ..
فضلان : الفضلُ لصاحبِ الفضل .
المرأة : لى
سنواتٌ دون خلفة .. وعشمي في الله كبير .
فضلان : كلُ شيء بأوان .. يهبُ لمن يشاء إناثا ويهبُ لمن
يشاء الذكور.
عدنان : ( يكمل الآية ) ويجعلُ من يشاءُ عقيما.
المرأة : ( في ضيق وهي تفرد كفها في وجه عدنان ) عندي
من الأولاد خمسة .
عدنان : خمسة؟!
المرأة : في عين
الحسود .
فضلان : وماذا تريدين؟!
المرأة : أريد حجابا
أو رُقية.
فضلان : ( يمد يده في خرجه ) الاثنان ..
( يمنحها الحجاب ثم يضع كفه
على رأسها متظاهرا أنه يرقيها وهي مستسلمة في خشوع )
فضلان : عدي تسعة أشهر مكتملة
.. وعودي بالبُشرى .
المرأة : لا
حرمنا الله بركاتك يا سيدنا .. البشارة البشارة .. ولك الحلاوة.
( تزغرد وهي تضع مالا في
صندوق النذور ثم تخرج )
عدنان : ( مندهشا ) حجاب؟! .. وماذا سيفعل الحجابُ
في مسألة الإنجاب؟!
فضلان : أنت لا تُدرك الأسباب ... مدد .. حييي ..
( يدخل رجلٌ موسِر يرتدي فاخر الثياب يصحبُ في يده غلاما حدثا )
الرجل : يا
مولانا الشيخ الواصل .. أدركنا بعلمك وسرك الباتع.
فضلان : خير يا سيدي؟!
الرجل : ( في حزن ) ولدي .. وحيدي .. وسندي ..
ووارثي بعد عمرٍ طويل .. لا يتكلم ..
عدنان : فقد
النطق؟!
الرجل : نعم يا
سيدي.
عدنان : وما
رأيُ الأطباء؟!
الرجل : لم
يفلحوا .. قالوا حالته ميئوسٌ منها .
فضلان : ( يهز رأسه في دروشة ) الأملُ في الله
موصول ..
الرجل : لهذا
جئتُ إليك يا مولانا .. قلتُ آخذ بالأسباب.
فضلان : خيرا فعلت .. هذا هو الغلام؟!
الرجل : تمام ..
تمام .. ما شاء الله .. علمٌ وتقوى ..
( فضلان يضع كفه على رأس الصبي ويتظاهر برقيته في خشوع بينما يتجه الرجل
إلى صندوق النذور يخرج كيسا ويلقيه فيه – يدركه عدنان )
عدنان : اسمح لي يا سيدي .. سؤال .. منذ متى هذه العِلة؟!
الرجل : منذ سنواتٍ عشرة.
عدنان : وكم يبلغ عمره اللآن؟!
الرجل : عشرَ سنوات.
عدنان : ( مصدوما في استنكار ) منذ ولادته؟! .. الولد
مولود أبكم؟!
الرجل : أرأيتَ المأساة؟!
عدنان : تلك وراثة يا سيدي .
الرجل : ( حزينا ) هكذا أجمع الأطباء .. لكن أملي
في الله كبير.
عدنان : ونعم بالله .. وفِر نقودَك يا رجل .. وارض بما
قسم الله .. ولدك سيعيش ويموت
أبكما.
الرجل : (غاضبا ) فال الله ولا فالك ..
عدنان : هكذا يقولُ العلم.
فضلان : (يتدخل في غيظ ) علم؟! .. أيُ علم؟!
عدنان : علمُ
الصفات والجينات.
فضلان : وما
أدراك ؟! .. هل أنت ولي؟! .. هل كُشف عنك الحجاب .. وكنت بالدعاء
مستجاب؟!
عدنان : لا ..
بل لي رأسٌ وعقل لا يؤمنُ بالخرافات والخزعبلات.
فضلان : أستغفر الله العظيم .. لابد أن تُستتاب .. تكفر
بالقدرة الالهية والمعجزات الربانية.
الرجل :
والعياذ بالله.
الدراويش : أستغفر الله .. حاشا لله ..
فضلان : ( صارخا في دروشة ) عليك غضبُ الله .
عدنان : لستَ وكيلا عن الله يا رجل لتوزعَ غضبه ورضاه..
فضلان : (يصرخ في دروشة ) حييي .. هو الغاية .. ونحن مجرد وسيلة ..
الدراويش : حيي ..
فضلان : هو
الغاية .. ونحنُ سبيلُ الهداية ..
الدراويش : مداااد ..
عدنان : بل انت
سبيلُ الغواية والأونطة ..
فضلان : تأدب يا رجل .. أنت في حضرة الأولياء.
عدنان : وما هذا
الصندوق إلا وسيلة لابتزاز الأغنياء المخدوعين وراء الوهم والخرافة.
الرجل : هذه
نفحاتٌ لأهل الله الصالحين .. متى كانت الصدقاتُ عيبا؟!
عدنان : حينما
تذهبُ لمن لا يستحقَها .. هذا الرجل الأفاقُ يتاجرُ بفقر وبؤس هؤلاء
الدراويش
المساكين .. يمنحُهم الفتاتَ بحجة الزهدِ والرضا بالقليل ..
بينما
يستحوذُ هو على نصيبِ الأسد من صندوق النذور.
فضلان : غفرانك يا كريم .. ذلك فضلُ الله يؤتيه من
يشاء.
عدنان : يا رجل
يا ضلالي .. تنطق بغير ما تُبطِن .. وتُلبِسَ الحقَ بالباطل .. تصدحُ بالآيات
وبالمأثور
من الكلمات كي تخدعَ هؤلاء البائسين المِعْوَزين
.. تتاجرُ بالدين وتبيعُ
أخراك بدنياك؟!
فضلان : تريدُ أن تفسدَ عليّ دراويش التكية ومريديها؟!
عدنان : بل أضعُ الأمورَ في نصابها الصحيح .. ( للرجل ) أنت أيها السيد.
الرجل : ماذا تريد؟!
عدنان : هل قصدت بصدقاتك وعطاياك غير وجه الله الكريم؟!
الرجل : حاشا وكلا .
عدنان : وهل ترى أن هناك من هو أولى بالإحسان من هؤلاء المساكين؟!
الرجل : لا والله .
عدنان : إذن لابد أن تذهب هذه الصدقاتُ لمن يستحقها .. هؤلاء
الفقراء .. هم أولى بها.
( يهجم على صندوق النذور – يخرج صرر المال ينثرها على الدراويش الذين
يقبلون عليه )
فضلان : ( في فزع ) ماذا تفعل يا مجنون ؟!
عدنان : أوزعُ
الأموالَ على هؤلاء المساكين .. الجوعى .. الحفاة العراة بلا مأوى ..
( يتحمس الرجل والغلام فيساعدان عدنان في توزيع الأموال والنفحات على
الدراويش الذين يهتفون في سعادة وبشر وسرور )
الدروايش : ( في سعادة ) مدد .. مدد ..
فضلان : ( يلطم وجهه في غيظ وهو يحاول إدراك المال
المتناثر ) الله يخرب بيتك ..
عدنان : لِم .. لِم .. يا محتال .. يا شيخ مشايخ الضلال.
فضلان : سأقتلك ..
عدنان : وأنا
سأفضحك على رؤس الأشهاد يا دجال .. يا محتال.
فضلان : اقطعوا رأسَ الملعون .. أريقوا دم الكافر
الزنديق.
( يهجم فضلان على عدنان في غضب فيفر منه عدنان إلى الخارج لكن يفاجأ بعمار الخمار عند الباب فيرتدُ مرة
أخرى)
عمار : ( يعترض طريق عدنان في ظفر ) ألم أحذرك منه يا سيدنا؟!
عدنان : أنتما
الاثنان سواء .. تتاجران بعقول البؤساء .. الأشقياء ..
فضلان : لا تفلته يا خمار ..
عمار : حلق عليه يا مولانا ..
فضلان : ما الذي ألقاك علينا؟!
عدنان : جئتُ
أبحثُ عن السيد سعفان .. له في رقبتي دَيْن.
فضلان : سأقطعُ تلك الرقبة .. امسكه يا خمار ..
تقوم مطاردة بين الثلاثة ليفر منهما عدنان بينما الدراويش مشغولون بجمع ما
تناثر من صندوق النذور .. تخفت الإضاءة تدريجيا
حتى يسود الظلام )
الدراويش : مدااااد ..
إظلام
المشهد السادس
بيت عدنان
بيتٌ متواضعُ الأثاث – مكتب ضخم في الصدارة ورقع جلدية وأوراق ومخطوطات –
مكتبة في الخلفية تزخر بكتب وموسوعات ضخمة – محبرة كبيرة وقلم طويل بصورة ملحوظة
ومبالغ فيها – تجلس أحلام حزينة وحدها )
ص. الرواوي : وفي هذه الأثناء .. كانت الزوجة الحزينة
أحلام .. تجلسُ في بيتها وحيدة ..
بعد أن نام العيال .. تراودها الأفكارُ .. ويشطحُ بها الخَيال ..
أحلام : تُرى أين أنت يا عدنان؟! .. أين تبيتُ ليلتك يا
زوجي الحبيب؟!
( تسمعُ طرقا علي الباب )
أحلام : قلبي يقول هو .. ( صائحة ) من؟!
عدنان : افتحي يا أحلام .. أنا عدنان ..
أحلام : ( بسعادة ) عدنان؟!
( تسرع لفتح الباب – يدخل عدنان بهيئته الرثة منزوع الثياب متلصصا في حذر )
أحلام : صدق
بائعُ البطيخ .. قال حتما ستعود إلى دارك وإلى زوجتك وعيالك.
عدنان : بائعُ البطيخ! .. هو أيضا مكشوف عنه الحجاب؟! ..
( يمسك ظهره في ألم ) آه .. آه
أحلام : ما لك
يا عدنان؟! .. ما الذي فعل بك هذا؟!
عدنان : طموحاتُك وأحلامُك .. يا ست أحلام ..
أحلام : ألا زلتَ
غاضبا مني؟!
عدنان : كنتُ غاضبا منك وحدك .. الآن صرتُ ناقما على الدنيا
ومن فيها.
أحلام : كل هذا
لأني طلبتُ منك مالا مثل كل الزوجات؟!
عدنان : كان لدينا ما يسترنا.
أحلام : والآن
لدينا ما يكفينا ويزيد .
عدنان : بعدما
بعتِ تعب السنواتِ وسهر الليالي الطوال للوراق؟!
أحلام : لم تكن
سوى حفنة أوراق .
عدنان : ( محتدا ) حفنة أوراق؟!
أحلام : ( مستدركة ) ملطخة
بالأحبار والأصباغ .
عدنان : اسمها كتب .. اسمها مجلدات .. مخطوطات .. ذخائر
السابقين من الجهابز والأفذاذ
سنواتُ
عمري التي ضاعت هباء .. عصارة فكري التي بيعت بالبخس للوراق الجاهل
ليصنع
منها قراطيس .. أو يحرقها وقودا للسفهاء وللغوغاء .. من يدري ربما كان
مصيرها بين أكوام النفايات ومقالب القمامة .. آه
يا كتبي وأوراقي .. آه يا فلذات
الأكباد.
أحلام : فلذات
الأكباد؟! .. تُشبهُ الكتبَ بأبنائك يا رجل؟!
عدنان : هم كالأبناء .. لكن لا يفهمُ هذا الجهلاء.
أحلام : تعايرني
بجهلي يا عدنان.
عدنان : بل أنعي حظي .. يا أوهام .
أحلام : اسمي
أحلام .. وكفاك استهزاء .. وإلا ..
عدنان : وإلا ماذا ؟! .. لم يعد لدي ما أخشى خسارته ..
خلاصةُ المعرفة بيعت للوراق ..
( مشيرا لرأسه ) وحصَّالةُ العِلمِ بيعت للدودة
سعفان.
أحلام : لم أكن
أتوقع منك كل هذا الغضب والحزن.
عدنان : وقت لا ينفعُ الندم .. انتهى الأمر.
أحلام : ( ملاطفة )لا لم ينته .. فقد أصلحتُ ما أفسدته .. وأقسمت ألا أغضبك مرة
أخرى.
عدنان : كيف؟!
أحلام : لقد
ذهبتُ إلى الوراق واستعدتُ ما بعته له من كتبٍ ومُجلدات.
عدنان : ( يهب فرحا كطفل ) حقا؟!
( ثم يتجه مسرعا بشغف إلى حيث الكتب – يقلبها بلهفة وسعادة بالغة )
أحلام : لكن
الرجلَ الطماع .. باعهما لي بثلاثة أضعاف ما دفعه لي من مال.
عدنان : لو علم قيمتها .. ما فرط فيها بكنوز الأرض.
أحلام : هل رضيتَ
الآن عني يا عدنان؟!
عدنان : ( يحتضن كتبه ويقبلهم دون أن ينتبه لأحلام ) كتبي
.. أحبتي .. عِشرة عمري ..
سهر الليالي
وشقائها .. أخلائي وندمائي ..
أحلام : ( في ضيق ) عدنان .. عدنان !!
عدنان : الحمدُ لله .. لم تنقصْ ورقة ..
أحلام : هل سامحتني
يا عدنان؟!
عدنان : سامحتك
.. لكن لي سؤال .. من أين لك بكل هذا المال؟!
أحلام : كله من
خيرك يا زوجي الحبيب .. ألم ترسل ألفي دينار مع ذلك المِرسال؟!
عدنان : ( كمن تذكر ) الألفي دينار .. كدتُ أنسى ..
أين هي؟!
أحلام : أين
ماذا؟!
عدنان : الألفي دينار.
أحلام : دفعتُ
منهم للوراق .
عدنان : والباقي ؟!
أحلام : سددتُ
ديْنَ الجزار والفران والخضري .. واشتريتُ كسوة وطعاما للعيال.
عدنان : والباقي ؟!
أحلام : اشتريتُ هذ الثوبَ الجديد .. ( تدورُ في سعادة طفولية ) ما رأيك؟!
عدنان : والباقي ؟!
أحلام : ( في ضجر ) أيُ باقي ؟! .. لم يبقَ شيئا
..
عدنان : ( في ذعر ) أنفقتِ الألفي دينار؟!
أحلام : ( في جزع تحاول تهدئته ) ليست كلها ..
ليست كلها .. بقيت خمسةُ دنانير.
عدنان : العوض على الله .. العوض على الله .. كنتُ أنوى
أن أردَها لصاحبِها واستردَ
بضاعتي.
أحلام : حلال
عليه البضاعة .. وحلال علينا النقود.
عدنان : ( صارخا بغيظ ) حسبي الله ونعم الوكيل ..
انت لا تعرفين ماذا كانت البضاعة؟!
أحلام : ( تفكر ) بضاعة تساوي ألفي دينار .. يا
للمصيبة .. الدار؟! .. بعت الدار يا عدنان؟!
عدنان : لا .. لم تكن الدار ..
أحلام : الحمد
لله .
عدنان : بعتُ له رأسي .
أحلام : رأسَك؟!
عدنان : نعم .
أحلام : تلك
الرأس؟!
عدنان : نعم .. تلك الرأس التي كم أزعجتني .. وأرهقتني
.. ولا زالت .
أحلام : ( تطلق زغرودة ) أخذت الشر وراحت .. ومن
صاحبُ الحظ التعِس الذي ابتُلي بهذه
الرزية.
عدنان : رزية ؟! .. رأسي رزية يا مفترية؟!
أحلام : وهل يجلبُ
علينا المصائبَ إلا تلك الرأسُ وما فيها من أفكارٍ حمقاء!
عدنان : ها أنذا بعتها لترتاحي .. وليتني ما بعتها .
أحلام : بعتَ
رأسَك يا عدنان؟! .. طب كنت ارهنها .. أو حتى أجرها بالساعة.
عدنان : لم يخطر هذا على بالي.
أحلام : ولِمَن بعتها؟!
عدنان : لرجلٍ سفيه .. يُدعى سعفان.
( صوت طرقات على الباب )
أحلام : من يطرق
باب دارنا في مثل هذه الساعة ؟!
عدنان : سترك يا
رب .. من؟!
( صوت سعفان من الخارج ثائرا )
ص. سعفان : هل هذا بيت المدعو عدنان ابن فهمان؟!
عدنان : نعم هو
.. من يريده؟!
ص. سعفان : عزرائيل .
أحلام : ( تدق صدرها في جزع ) يا مصيبتي !!
عدنان : من
؟!
ص. سعفان : قلت لك عزرائيل .. افتح يا عدمان ..
عدنان : السيد سعفان؟!
ص. سعفان : نعم سعفان .. يا تلفان .. يا فسدان .. يا مروِّع
الحريم .. ومفزع النسوان.
أحلام : لا تفتح
يا عدنان ..
عدنان : لا تخافي .. إنه سوء تفاهم بسيط .. لابد من
إيضاحه ..
( يتجه لفتح الباب – يعود معه سعفان
متقلدا سيفه )
تفضل يا سيد سعفان .. مرحبا بك في داري المتواضعة.
سعفان : لا أهلا ولا مرحبا .. بيني وبينك حساب سأسويه
الآن.
عدنان : أعرف .
سعفان : تعترف ؟!
عدنان : الألفي دينار ..
سعفان : لا يعنيني المال .. ( يشهر سيفه ) جئتُ لقطع رأسك.
أحلام : ( بهلع ) زوجي .. عدنان ..
عدنان : اهدأ يا سيد سعفان ولنتفاهم .
سعفان : ( ثائرا ) سأقتلك .. أنت تتحرشُ بزوجتي؟!
أحلام : ( في هلع ) يا مصيبتي .. تحرش بمن؟!
سعفان : ( منفعلا ) زوجتي .. نفوستي .. حبيبتي .
أحلام : ( في غضب ) هل هذا صحيح يا عدنان؟!
عدنان : لا
تصدقيه .. هناك سوء تفاهم .
سعفان : سأقتلك يا ملعون .. يا هاتك الأعراض.
أحلام : أوصلت
إلى هذا الحد؟!
عدنان : لا
تصدقيه .. لا تصدقيه .. هي من حاولت الغواية.
سعفان : تفتري
على نفوستي .. حبيبتى؟!
أحلام : ( لعدنان بغضب ) من نفوستك هذه يا رجل؟!
.. انطق .
عدنان : زوجة هذا الرجل الطيب الذي اشترى رأسي من أجلها.
أحلام : ( تدقُ صدرها ) من أجلها؟! .. اشترى رأسَك
أنت من أجل زوجته ؟!
عدنان : نعم
أحلام : متأكد
أنها رأسك فقط؟! .. أم شيئا آخر يا بصباص .. يا هلاس.
عدنان : والله العظيم رأسي فقط .. لكن خسرتُ معها الكثير
.. كرامتي وحريتي واحترامي
لذاتي
.
سعفان : والآن ستفقدُ روحك .. انطق الشهادتين على روحك.
( يستل سيفه ويهجم على عدنان الذي يحتمي بكتبه ومكتبه ثم لا يجد ما يدافع
به عن نفسه سوى القلم الضخم فتدور مبارزة هزلية بينه وبين سعفان يتخللها هذا
الحوار – بينما أحلام تصرخ وتولول وتنوح في خوف وهلع )
عدنان : اعقل يا رجل
سعفان : لم يعد لدي عقل
عدنان : اهدأ يا دودة
سعفان : الدودة صارت وحشا جسورا ..
عدنان : نتفاهم
سعفان : لا تفاهم ولا نقاش ..
عدنان : سترتكبُ حماقة تشنق بسببها في ميدانٍ عام.
سعفان : لا يهم .. المهم أن أثأر لشرفي. ( يهمُ سعفان بطعن عدنان بعد أن تمكن منه )
ص. الراوي : وفي اللحظة الحاسمة .. قبل الضربة الصارمة
.. سمع الجميعُ طرقا عنيفا على
بابِ الدار .. وأصواتا وجلبة في الجوار ..
فتردد حاملُ السيف البتار ..
( صوت دقات عنيفة على الباب )
أحلام : من هذا
أيضا؟!
أصوات : افتحوا الباب ..
أحلام : من
أنتم؟!
أصوات : افتحي يا حرمة.
عدنان : افتحي
.. افتحي يا أحلام .. ربما تكون النجدة.
سعفان : لن ينجيك أحدٌ مني.
( تسرع أحلام تفتح الباب يدخل الشرطي وجنديان وخلفهم عمار وفضلان وعباس
النخاس )
الشرطي : هل هذا بيت المدعو عدنان ابن فهمان؟!
أحلام : نعم يا
سيدي الشرطي.
الشرطي : ( لعدنان وسعفان ) من فيكما عدنان؟!
عدنان : أنا
عدنان .
الشرطي : ( لعمار وفضلان وعباس ) هل هذا هو الشخصُ
المطلوب؟!
عمار : هو ..
بشحمه ولحمه.
فضلان : هو .. الملعون .. الكافر.
عباس : يبدو أنه
هو ..
عدنان : ماذا
هناك أيها الشرطي؟!
الشرطي : مطلوب القبض عليك .
سعفان : ليس قبل
أن أقبضَ روحَه.
الشرطي : لا تتعجل .. غدا سيمثل بين يدي مولانا القاضي
.. ( للجنديين ) اقبضوا عليه.
( الجنديا يقبضان على عدنان وسط تشفي خصومِه ، وبكاء زوجته أحلام )
عمار : تلقى
وعدك ..
فضلان : جهنم وبئس المصير ..
عباس : عامل
فيها مُصلح ؟!
سعفان : لن
أتركك حتى تُقطعَ هذه الرأسَ في ميدان عام.
أحلام : ( تصرخ في حسرة ) عدنان !! .. آه يا زوجي
الحبيب .
عدنان : لا
تقلقي يا أحلام ..
إظلام
المشهد السابع
ص. الراوي : وفي الصباح التالي .. كانت المدينة كلها لا
تبالي .. إلا بما كان يدورُ في ديوان
القاضي .. فاجتمع الخلقُ وتجمهروا أمام الديوان .. ليشهدوا محاكمة السيد
عدنان بن فهمان.
المحكمة
ديوانُ المحكمة – كرسي القاضي فخم وضخم في الصدارة – لافتة كبيرة خُط عليها
بخطٍ واضح " وإذا حكمتم بين الناسِ أنْ تحكموا بالعدل "
يدخل الحاجب معلنا وصول القاضي..
الحاجب : مولانا المبجل صاحب المقام والإحترام قاضي
القضاة .
( يدخل القاضي مختالا برداءه الفضفاض وعمامته الضخمة المزركشة – يتأملُ
المكان في ضيق )
القاضي : شكرا أيها الحاجب .. لكن ما هذه الجلبة التي
بالخارج؟!
الحاجب : عدة قضايا يا مولانا القاضي .. بالجملة.
القاضي : ( في ضيق ) بالجملة؟!
الحاجب : لا تقلق يا مولانا .. المتهم فيها رجلٌ واحد .
القاضي : رجلٌ واحد؟! .. مجرمٌ خطير؟!
الحاجب : بل هدية يا مولانا .. (هامسا ) عليه توصياتٌ من جناب الوالي.
القاضي : توصيات؟! .. بالسلبِ أم الإيجاب؟!
الحاجب : ( بخطورة ) بقطعِ الرقاب.
القاضي : ما اسمُ هذا الشقي؟!
الحاجب : اسمه عدنان .. عدنانُ ابن فهمان.
القاضي : ( صارخا ) هذا الملعون .. كم أرهقنا بطول
لسانه وأفكاره التي أزعجت الديوان ..
لا يعجبه آداءُ الوزراء .. ويهاجمُ نوابَ
الشعب المنتخبين بكل نزاهةٍ وحياد ..
بل
ويسفهُ من أحكامِ القانون .. وينتقدُ الوالي في الأسواقِ وفي الساحات العامة.
الحاجب : ها قد
واتتنا الفرصة لينالَ جزاءَه.
القاضي : أدخله لننتهيَ من أمره.
الحاجب : أمر جناب القاضي .. (
يفرد رقعة ينادي منها بصوت جهوري )
المدعو
عدنان ابن فهمان .. والمدعو عمار الخمار .. وفضيلة الشيخ فضلان
شيخُ
التكية .. والمدعو عباس النخاس .. والسيد سعفان بن وصفان وحرمه
المصون
.. ومن حضر من شهودٍ وعِيان .
( يدخل الجميع لتمتلأ ساحة المحكمة عمار وسكران 1 وسكران2 .. وفضلان
ودرويش1 ودرويش2 .. وعباس النخاس وبصحبته ريحانة .. وسعفان وزوجته والصبي ..
وعدنان وزوجته أحلام )
الحاجب : ( صائحا ) محكمة .. نرجو الهدوءَ يا سادة
.. نرجو الهدوء.
القاضي : أين المتهم؟!
الجميع : هاهو يا مولانا القاضي ..
القاضي : أنت؟!
عدنان : فيما
يبدو .. كلهم أجمعوا على ذلك.
أحلام : زوجي بريء يا مولانا القاضي .. ارحمه من أجل
عياله.
القاضي : سيأخذُ العدلُ مجراه .. كله بالقانون .. ما هي التهمة الأولى؟!
الحاجب : ( ينادي ) عمار الخمار .. تقدم يا رجل.
عمار : السلام
والتحية لصاحب المقام والاحترام ..
القاضي : بدون مقدمات .. ما شكواك؟!
عمار : هذا
الرجل خرب بيتي الله يخرب بيته .. أفسد عليَ زبائني .. وأفسد بضاعتي ..
القاضي : مقبول .. التالي ..
الحاجب : الشيخ فضلان ..
فضلان : ليس لي مظلمة خاصة يا سيدنا القاضي .. فالشكوى
لله وحده والمذلة ..
القاضي : قضية عامة؟! .. حسبة؟!
فضلان : لا أبغي
إلا وجهَ الله .. والمصلحةَ العامة ..
القاضي : تحدث
يا سيدنا .. ماذا اقترف هذا الآثم؟!
فضلان : ينكرُ
ما هو معلومٌ بالضرورة في أصلِ الدين.
عدنان : يا رجل
يا ضلالي ..
القاضي : اسكت أنت .. لا تتكلم إلا بإذن .. أكمل يا شيخ
فضلان.
فضلان : أفسد
علينا الدراويش .. وطفش المريدين .. وبدد صندوقَ النُذور ..
القاضي : ( بظفر ) هذا أمرٌ خطير .. مقبول .
عدنان : كله
مقبول .. مقبول .. ألن تسمعَ دفاعي؟!
القاضي : مرفوض .. الدفاع آخر الجلسة .. التالي.
الحاجب : عباس النخاس .
عدنان : هذا بالذات لا أعرفه .. ولا عمري عاملته.
عباس : ولا أنا .
القاضي : إذن ما هي شكواك؟!
عباس : أفسد عليّ
جارية من أفضل ما لدي من الجواري .. وحرضها للهربِ مع عشيقها.
عدنان : أنا؟!
عباس : نعم أنت
.. هذا اعترافُ العشيق.
عدنان : مالي
والعشق يا سيدي .. يكفيني ما أنا فيه من همومٍ ومصائب.
عباس : ( يشيرُ لسعفان ) هذا الرجل يشهد .
عدنان : سعفان ؟!
عباس : له صلة
بالعشيق الفسدان.
سعفان : ( في خشية ) اعلم يا مولانا القاضي أن هذا
الأمر تم بغير علمي .. فيما أنا منشغلٌ
برأسِ هذا الشيطان.
القاضي : أنا لا أفهمَ شيئا .. ما أصلُ الحكاية؟!
عباس : ( يشيرُ للصبي ولريحانة ) هذا الصبي ..
وتلك الجارية .
الصبي : ( محتدا ) اسمي خليل ..
نفيسة : خليل؟!
الصبي : نعم
خليل ..
نفيسة : منذ متى
يا نكرة .. يا بعوضة .. يا صغيرَ البرغوث؟!
الصبي : ( مشيرا لعدنان ) منذ عرفتُ هذا الرجلَ
الجليل .
عدنان : ( ممتنا ) أشكرك.
ريحانة : وأنا ريحانة
..
عباس : ( بغيظ ) جاريتي الهربانة.
نفيسة : مقصوفة
الرقبة.
القاضي : ما هي التهمة؟!
الصبي : يا
مولانا القاضي العادل .. أوليس من حق كل إنسان أن يعشقَ ويُحب؟!
فضلان : ( صارخا بدروشة ) أستغفرُ الله ..
الصبي : بالحلال
يا مولانا .. أليس الحبُ فطرة الله وسنَّته في الكون؟!
سعفان : من أين
جئت بهذه الأفكار يا ملعون؟!
الصبي : ( يشير لعدنان ) هكذا أخبرني هذا الرجلُ الطيب.
عدنان : ( مؤمئا برأسه في سعادة ) فعلا .. لولا
الحبُ لفنيَ العالمُ منذ قرونٍ طويلة.
القاضي : ( في ضيق للصبي ) دعك من هذا المتهم وأكمل
حكايتك .
الصبي : رأيتُ
هذه الجارية في السوق .. أُعْجِبْتُ بها .. وأعجبَتْ بي ..
فضلان : أستغفرُ
الله ..
الصبي : بالحلال
يا مولانا ..
ريحانة : واتفقنا
على الزواج.
الجميع : الزواج ؟!
فضلان : أستغفر
الله ..
الصبي : ( مستنكرا ) على سنة الله ورسوله.
عباس : أفتنا يا
مولانا الشيخ .. هل هذا يجوز؟!
فضلان : لا يجوز .. ( للصبي في تحدٍ ) ليست حرة كي تنكحَها .
نفيسة : ( بغيظ ) كما أنك أنت أيضا أيها الشقيُ
لستَ حرا.
الصبي : ( لسعفان مقبلا يده ) اعتقني يا سيدي
ينوبك ثواب .
نفيسة : بل
ستنال أشد العقاب ..
ريحانة : ( لسعفان في استجداء ) لقد قال خليل أنك
رجلٌ طيب.
سعفان : مَنْ
خليل؟!
الصبي : أنا ..
سعفان : هو قال
ذلك؟!
ريحانة : وأكثر
من ذلك .. قال إنك كريمٌ .. جواد .. تفعلُ الخيرَ وتنساه.
نفيسة : ( في تهكم ) مغفل ..
ريحانة : لا تعلمُ يُسراكُ ما تنفقُ يُمناك.
نفيسة : سفيهٌ مُسرِف ..
الصبي : نطمعُ
في عطفِك يا سيدي سعفان .. وسنظلُ خادميْن لك طولَ عمرِنا .
ريحانة : لا
تكسر قلبين محبين .. تعطَّف بنا يا سيدي .
نفيسة : ( في غيظ ) دعكِ من تلك الميوعة واللزاجة
يا جارية .. لن ينطلي علينا هذا الآداءُ
الرديء
المفضوح.
الصبي : ( في غيظ ) ألا تفعلين خيرا في حياتك
أبدا؟!
ريحانة : ( لسعفان ) نطمعُ في طيبة قلبك يا سيدي!
.. لا تُفرق بين قلبين محبين.
سعفان : ( متأثرا ) عيبي هذا القلبُ الطيب ..
نفيسة : ( محذرة ) سعفان !!
سعفان : كم تطلبُ
فيها يا نخاس؟!
عباس : ( مستغلا الفرصة ) هه .. ألفَ دينار ..
سعفان : كثير ..
ريحانة : لن ننسى لك هذا المعروف .
الصبي : ألم أقل لكِ ؟! .. رجلٌ طيب .. لا تتردد يا سيدي
.
سعفان : ( للنخاس ) خمسمائة ..
نفيسة : ( محذرة ) سعفان !
عباس : سبعمائة ..
نفيسة : (محذرة ) إياك يا دودة.
سعفان : ( بعد تفكير ) موافق يا نخاس.
( يمنحه صرة دنانير وسط فرحة وسعادة الصبي
وريحانة التي تطلق زغرودة )
نفيسة : ( في ضجر ) تُلقي أموالك دون حساب ؟!
سعفان : عند
الله الأجر والثواب ..
نفيسة : سبعمائة
دينار يا موكوس؟!
سعفان : وقد
أعتقتهما لوجه الله .. هه.
الصبي : ( يقفز فرحا يقبل رأس سعفان ) شكرا لك يا
سيدي .. شكرا لك يا سيدي.
هيا
يا ريحانة قبل أن يرجعَ في كلامه .. ( يُحي الجميعَ في سعادة )
سلامٌ عليكم جميعا ..
سلامٌ عليك يا سيدي سعفان .. قلبي معك يا
سيد عدنان
أشكرك
يا مولانا القاضي .. أشكرك يا سيد عباس
( عباس مشغول بعد النقود )
الصبي : ( لنفيسة في سخرية وغيظ ) أما أنتِ فلا
سلامَ ولا كلام .. يا عقربة .. يا أم أربعة
وأربعين
.. يا أم قويق .. يا أنثى السلطعون .. هيا يا ريحانة .. هيا يا زوجتي
الحبيبة
.. أين الزغاريد ؟!
(
يأخذ ريحانة التى تطلق زغرودة ويخرجان )
نفيسة : ( لسعفان في غيظ ) هل جننتَ يا رجل؟!
سعفان : وشرائي رأساً بلا جسد لم يكن جنونا؟! .. دعيني
أفعل شيئا مفيدا مرة واحدة في
حياتي.
عباس : ( ينتهي من عد النقود ) تمام .. حلال عليك
.. (يتهيأ للإنصراف ) السلامُ عليكم.
القاضي : انتظر يا رجل .
عباس : أنتظر
لماذا؟!
القاضي : القضية
لم تنته بعد.
عباس : لقد
سحبتُ شكوتي .
القاضي : من أعطاك هذا الحق ؟!
عباس : لقد
أخذتُ نقودي ..
القاضي : تمت مصادرة النقود .. فالدعوة لازالت قائمة .. أيها الحاجب..
الحاجب : أمرك يا جناب القاضي ..
( يخطف صرة النقود من عباس في غلظة )
عباس : نقودي ؟!
القاضي : انتظر
آخر الجلسة.
عباس : (بخشية ) أمرُك يا مولانا القاضي .
القاضي : التالي ..
الحاجب : السيد سعفان بن وصفان.
سعفان : أمرُك
يا مولانا ..
القاضي : ما شكواك؟!
سعفان : هذا
المدعو عدنان باع لي بضاعة مغشوشة .
عدنان : لم تكن
مغشوشة .. لقد عاينتَ وفحصتَ البضاعة بنفسك.
سعفان : رد إليَّ نقودي يا مُحْتال.
عدنان : هذا ما
كنتُ أنوي فعله .. لولا أن زوجتي صرفت كلَ المال.
أحلام : لم أكن
أعلم .
سعفان : الألفي
دينار؟!
نفيسة : ( صارخة ) كم؟!
سعفان : (متداركا ) أقصد المائتي دينار.
القاضي : مائتين أم ألفين؟!
سعفان : ( مرتبكا في حيرة ) في الحقيقة .. هي .. هي .. ( هامسا للقاضي ) ألفين .
نفيسة : كم ؟!
سعفان : ( لنفيسة بصوت عالي ) مائتين .. مائتين ..
عدنان : بل ألفين .. والحقُ يقال ..
سعفان : بل
مائتين .. والعوض على الله .
عدنان : يا سيدي
لا أقبلُ أن آكلَ حقك .. لكنَّ المالَ غيرُ متوفرٍ الآن .. أمهلني شهرا.
سعفان : ( معترضا ) شهرا؟!
عدنان : أو شهرين .. أو حتى عاما .
سعفان : ( في غضب ) عاما؟!
عدنان : أو عامين .. حتى أستطيعَ السداد .
سعفان : لا .. بل أطالبُ بقطعِ رقبتك الآن على رؤس
الأشهاد .. لا أريدُ مالا .. ردَّ إليّ
بضاعتي
التي اشتريتها مفصولة عن باقي الجسد .. لأعلقها محنطة على باب الدار ..
لتكون
عبرة لمن يعتبر.
عدنان : لم يكن هذا مكتوبا في العقد .. قلنا شروة واحدة
.. وكانت هذه رغبة زوجتك.
سعفان : لا شأن لك بزوجتي .. نفوستي .. حبيبتي.
عدنان : زوجتك
هي أصلُ البلوى .. لولاها لما فسدت الصفقة .
نفيسة : ( في مسكنة ) أنا؟!
عدنان : نعم
أنتِ .. بأمارة .. ( يقلدها في مرارة ) .. هيتَ لك ..
سعفان : قلتُ لك لا شأن لك بها.
القاضي : هدوء .. هدوء .. حتى الآن لم نعرف طبيعة
البضاعة المباعة.
عدنان : إنها
رأسي يا سيدي .. رأسي.
القاضي : رأسُك؟!
عدنان : نعم ..
بعتها لهذا الرجل مقابل ألفي دينار ..
سعفان : (متوجسا من زوجته ) بل مائتين.
عدنان : ألفين
..
سعفان : (يلطم وجهه في حسرة ) بل مائتين ..
القاضي : عال .. عال .. هذا اعترافٌ خطير .. بهذا تكون
اكتملت أركانُ القضية .. فلتنتظروا
جميعا
حتى النطقَ بالحكم .
عدنان : ألن
تستمعَ يا سيدي للدفاع؟!
القاضي : دفاع؟! .. التهم ثابتة .. والقانون واضح وصريح.
أصوات : هذا ظلم .. هذا حرام ..
عدنان : ألن
تستمعَ لأقوال الشهود ..
القاضي : لو نجوتَ من تهمة .. لن تفلتَ من الأخرى .. كله
كوم .. وقضية الرأس هذه كوم .
أحلام : ( مستجدية ) أرجوك يا سيد سعفان .. من أجل
الأطفال الصغار .
سعفان : ( مُعرِضا ) أريدُ مالي .. أو رأسَ هذا
الشيطان.
أحلام : ماذا
فعلتَ بنا يا عدنان؟!
عدنان : أعترفُ
أنني أخطأتُ حينما فرطتُ في رأسي لهذا الرجلِ السفيه .. الذي ارتضى أن
يكونَ
في الحياة مجردَ دودة .. ما كان ينبغي لي أن أبيعَ هذه الرأسَ ولو بكنوز الدنيا.
هتافات : العدل
العدل يا قاضي القضاة .. الحرية للسيد عدنان ..
الحاجب : هدوء .. وإلا سنضطرُ لإخلاء القاعة .
القاضي : هدوء .. حتى ننطقَ بالحكم .. هدوء ..
الحاجب : محكمة ..
القاضي : بعد الاطلاع على ما وصلَ إلينا من أدلة وبراهين
.. قد ثبت إدانة المتهم المدعو
عدنان
ابن فهمان ثبوتَ اليقين .. ومما استقرَ في ضميرِ المحكمة المنعقدة في الوقت
والحين
.. حكمنا نحنُ قاضي القضاة على المتهم المذكور .. بفصل رأسه عن جسده
بسيفٍ
بتار لتُمنحَ الرأسُ إلى مالكِها الحالي السيد المحترم سعفان بن وصفان ..
وتُدفن
باقي الجثة بمعرفة أهل المتهم في مدافن الصدقاتِ والإحسان ..
الحاجب : (صائحا ) محكمة ..
أحلام : ( صارخة في لوعة ) عدنان ..
( أصواتٌ معترضة - أحلام تصرخ في
لوعة – بينما تطلق نفيسة زغرودة مدوية )
إظلام
المشهد الثامن
ص. الراوي : وما هي إلا ساعة .. حتى نُصِبَت المِقصلة ..
وشرع الجلادُ في تنفيذ العقوبة
المفصلة
.. وتجمهر النخبة والعوام .. في ساحة الإعدام .. منهم المؤيدُ ..
ومنهم المعارضُ .. ومنهم من جاء للفُرجةِ والسلام .
ميدانٌ عام
( عدنان مصلوبٌ أمام المقصلة في أقصى العمق، يقفُ السيافُ حاملا سيفه في
تأهبٍ لفصل الرأس - جنودٌ يملأون المكان -
جماهيرٌ محتشدة بينهم دراويشُ التكية وروادُ الخمارة وبعضُ الجواري والغِلمان يظهر
بينهم الصبي وريحانة في حزنٍ - أحلام تقفُ قربَ المقصلة تدور بين المحتشدين في بكاء
– سعفان يحملُ سلة وفضلان وعمار في جانب يقفون في شماتة )
أصوات هتافات
هتافات : الحرية للسيد عدنان .. الحرية للسيد عدنان .
( أصوات قرع طبول وموسيقى صاخبة تعلن لحظة تنفيذ الحكم .. يقترب جندي
بعصابة سوداء يعصبها على عيني عدنان الذي يبدو مستسلما - يرفع السياف يده عاليا
بالسيف منتظرا أمر الشرطي له بقطع الرأس - تصرخ أحلام )
أحلام : عدنان
!
فضلان : اقتلوا الكافرَ الزنديق ..
سعفان : هيا أيها السياف .. أفصل الرأس بسرعة .. وضعها
في هذه السلة .. أريدُ بضاعتي.
عمار : منذُ
زيارته المشؤمة .. والحانة هجرها نصفُ الزبائن .. خسارة فادحة لم تفلح في
فعلها
مواعظُ شيخِ التكية لسنوات طوال.
فضلان : التكية ؟! .. خربت .. ما عادت مثلَ سابق عهدِها
.. أفسدَ هذا الملعونُ الدراويش
وطفَّشَ
المريدين الأسخياءَ بِضلالِه وأفكارِه المسمومة .
هتافات : الحرية للسيد عدنان .. الحرية للسيد عدنان .
أحلام : عدنان
!! .. يا زوجي الحبيب ..
( يأتي صوتُ عدنان من أقصى العمق في ثبات )
عدنان : لا تبكِ
يا زوجتي الحبيبة .. سيقطعونَ الرأسَ فقط .
أحلام : سيقتلوك.
عدنان : سيقتلونَ الجسد .. أما الأفكارُ فلا تموت.
أحلام : لن أحيا
بعدَك بالأفكار .. لن أُطعمَ أطفالَك أفكارا.
هتافات : الحرية للسيد عدنان .. الحرية للسيد عدنان ..
عدنان : أنصتي .. أتسمعين هُتافاتِ الدراويش؟! ..
اتسمعين هتافاتِ الأحرار؟!
أحلام : تقصدُ عبيدَ
النخاسِ، وحرافيشَ التكية؟!
عدنان : هذا وصفُهم في نظرِ العِميان .. من وقعوا في أسرِ
خطاياهم وغرائِزِهم
أما هؤلاء .. فهمُ الأحرارُ حقا .. من تحرروا من
الزيفِ والرياءِ والنفاق
هؤلاء
من سيمنحون روحي البقاء .. الرأسُ يريدُها العميانُ الغافلون
أما
الجوهرُ فسيلوذُ به المبصرون .. العاقلون .. هؤلاء همُ الأحياء.
الدراويش : (يهزون رأسهم في وجد وهم يذكرون اسم الله في
همهمة خافتة خاشعة )
الله .. الله ..
أحلام : ألازلتَ تخوضُ في تلك الأوهام؟!
عدنان : ليست
أوهاما .. أنصتي ..
الصبي : الحبُ ترياقُ الحياة ..
ريحانة : الحبُ سرُ الوجود ..
عدنان : هذه كلماتي ..
الدراويش : الله .. الله ..
سكران2 : العقلُ
كنزُ العقلاء ..
سكران1 : الوعيُ
قيمة لا يدركُها الغافلون.
الدراويش : الله .. الله ..
درويش1 : الإيمانُ طاقة ..
درويش2 : الإيمانُ نور ..
الاثنان
: نورُ البصائرِ والقلوب ..
الدراويش : الله .. الله ..
عدنان : هل
تسمعين ؟! .. ها هي الكلماتُ تحلقُ كالسحاب
هل بمقدورِ البشرِ تكميمُ السحاب؟!
فلتسبحي أيتها المعاني في سمواتِ الكونِ الرحيب
تنتظرين
يوما تُمطرِين فيه خيرا يعمُ الدنيا
خيرا لا يحْبَسُه طغيانٌ .. ولا يَمْنعُه جَوْرُ
سلطان
رأسي ستبلى .. اليومَ أو بعدَ يوم ..
أما
أفكاري فامنحوها بقلوبِكم وعقولِكم خلودَ الخالدين ..
الدراويش : الله .. الله ..
أحلام : (تصرخُ بالمتجمهرين ) تحركوا .. افعلوا
شيئا .. هل ستكتفون بهز رؤوسِكم
آسفين؟! .. افعلوا شيئا لتحريرِ رأسِ هذا
الرجلِ البائس .. من أجل عياله المساكين.
سعفان :
خلصنا يا سياف.
( يشيرُ الشُرطي للسيافِ بيده – فيرفعُ السيافُ يدَه عاليا في تأهب – صوتُ طبولٍ
صاخبة )
( ترتفعُ الهتافات في موجات متصاعدة )
هتافات :
الحرية للسيد عدنان .. الحرية للسيد عدنان ..
( أحلام تطوفُ بينهم في ثورة وهي تصرخُ بهستيرية )
أحلام : ماذا يفيدُ الهُتاف ؟!
الدراويش : ( يتمايلون في وجد ) الله .. الله ..
أحلام :
ماذا يفيدُ الدعاء؟!
( تتصاعد الهتافات )
هتافات :
الحرية للسيد عدنان .. الحرية للسيد عدنان ..
فضلان : الموتُ
للزنديق ..
الدراويش : الله .. الله
عمار :
الموتُ للمُحتال ..
هتافات :
الحرية ..
فضلان وسعفان وعمار : الموت ..
الدراويش : الله .. الله ..
هتافات : الحرية
..
الثلاثة :
الموت ..
( يتأهبُ السيافُ لضربِ الرأس – ترتفعُ الهُتافاتُ
وهمهماتُ الدراويش .. وسط الموسيقى الصاخبة والطبولِ العنيفة – يتجمع المتجمهرون ويتقدمون
نحو المقصلة - يعترضُهم الجنودُ وهم يدقون الأرضَ بكعوبِهم
ويهمهمون همهماتٍ عنيفة لردعِ المتظاهرين الذين يستمرون في تقدمهم وهتافاتهم – يشيرُ
الشرطي للسياف الذي يهوي على رأس عدنان وسط صرخة مدوية من أحلام .. وهمهماتٍ .. وهُتافاتٍ
.. وتهليلاتٍ من الدراويش )
أحلام : ( صرخة مدوية ) عدنان ..
الدراويش : ( لا زالوا يهتزون في وجد ) الله .. الله
..
إظلام
المشهد الأخير
أثناء الإظلام يأتي صوتُ الراوي مستدركا في هدوء:-
ص. الراوي : عفوا يا سادة .. لحظة واحدة من فضلكم .. لم
تكن هذه هي نهاية سيرة بني
فهمان
.. فلازالت هناك بقية .. لكن بعد مرور سنواتٍ وسنواتٍ وسنواتٍ طوال.
( يضاءُ المسرح على مشهد في العصر الحديث ..
لبازار أو محل تحف وأنتيكات .. مكتوبٌ على واجهته "بازار بني فهمان" .. يظهر شابٌ شديد الشبه بعدنان .. ويمكن أن يؤدي
دوره نفسُ الممثل .. يرتدي ملابس عصرية .. ويحملُ في يده دمية لرأس بشرية مقطوعة
.. يضعها بحرص على أحد الأرفف المتعددة والتي تزخر بعدد كبير من الرؤوس
المقطوعة .. تدخل سيدة متأنقة وخلفها زوجُها
.. قد تشبه نفيسة .. وقد يشبه الزوج سعفان )
السيدة : من فضلك .. لو تكرمت.
الشاب : أمرك يا سيدتي .. تفضلي .. المتحفُ
نور.
الزوج : متحف؟!
الشاب : نعم يا سيدي .. أو سمِّه إن شئتَ بازارا
.. أو معرضا للتحف النفيسة.
السيدة : تحف؟! .. لا أرى سوى رؤوسا مقطوعة!
الشاب : هذه هي المقتنيات الثمينة .. رؤوسُ
أجدادي العظام .. من سلالة عدنان بن فهمان
( يشيرُ إلى رأس تشبه عدنان ) هذه رأسُ جَدي الأكبر .. عدنان بن فهمان
.. قطعت
في ميدان عام .. وهذه رأس جدي
السابع فهمان بن عدنان .. بيعت في مزاد علني
لتسوية بعض الديون .. أما هذه .. فرأسُ جَدي الرابع عشر .. عد..
الزوج : ( مقاطعا في ضجر ) عدنان بن فهمان بن
عدنان بن فهمان .. لخِص.
الشاب : تبرع بها طواعية لإحدى جمعياتِ البرِ
والإحسان.
السيدة : ولماذ تعرضُ كل هذه الرؤس المقطوعة؟!
الشاب : تخليدا لذكرى جدودي العظام .. الذين
ضحوا برؤوسهم من أجل سعادة البشر.
الزوج : حقا ؟! .. وهل سعِدَ البشر؟! .. هيا
يا زوجتي الحبيبة .. ليس لدينا وقتٌ لنضيعَه في
الفرجة على رؤوسٍ مقطوعة.
الشاب : لحظة واحدة يا سيدي .. معروضاتي ليست
للفرجة فقط .. يمكنكما اقتناء أي رأسٍ
تعجبكما .. ومعها هدية .. مخطوطة نادرة لسيرة بني فهمان.
الزوج : لا شكرا .. لا نريد.
السيدة : انتظر يا رجل .. دعنا نجرب .
الزوج
: ( مستنكرا ) نجرب ماذا؟!
السيدة : ( في دلال ) أن نقتني رأسا ..
الزوج : ( يتأملُ الرؤوس ) وما الفائدة؟!
السيدة : لن نخسرَ شيئا .. لم ترفضْ لي طلبا من قبل.
الزوج
: ولازلت .. ( في إذعان ) أيَّ رأس تشتهين.
السيدة : ( تتأملُ الرؤوسَ المعروضة .. ثم تمسك رأسَ
الشاب فجأة صائحة ) هذه الرأس ..
الشاب : ( مستنكرا في دهشة ) سيدتي؟! .. هذه ليست
للبيع ..
السيدة
: بأي ثمن ..
الشاب : ولا بكنوز الأرض ..
السيدة : ألا تريدُ أن تُسْعِدَ البشرية؟!
الشاب : وهل أملكُ السعادة لنفسي؟! .. ابتعدي
يا مجنونة .
( يتخلص الشاب من قبضة السيدة فتسقط أرضا ..
يسرعُ الزوجُ لنجدتها صارخا في فزع )
الزوج : نفوستي .. حبيبتي !!
ويسدل ستارُ الختام