الثلاثاء، 3 يناير 2012

شهيد


شهيد
قصة قصيرة

طاف الجُثمانُ بأرجاء الميدان، محمولا فوق الأعناق ، تتباري السواعدُ للمشاركة في حمله، والثوارُ يشيعونه بهتاف حار ..
-         لا إله إلا الله ، الشهيد حبيب الله ..
هتافٌ لم يتوقف لحظة، ولو لالتقاط الأنفاس. ظل يترددُ مشعلا الحماسةَ في النفوس، متوغلا في الصدور المكلومة، ماسا شغافَ القلوب التي لم تستطعْ دفقاتُ الدمع أن تطفيءَ سعيرَ النيران التي تأججت بها، فالعبراتُ بدورها كانت ملتهبة كالحميم.
لم يتوقف هزيمُ الثوار إلا حينما استقر الجثمانُ في مقدمة المشهد المهيب، وانتظم المشيعون في صفوف متوازيةٍ، ورفع الامام كفيه ليجهر بالتكبيرة الأولي .
-         الله أكبر.
وقفت الأمُ غير بعيدٍ ترقبُ المشهد في لوعة، تتحاملُ بجسدها المنهار علي الأب الذي لايقلُ حاله بؤسا عنها، لكنه بدا جلدا متماسكا كالوتد الذي يأبي أن يتزحزح من مكانه. سمعت الأمُ التكبيرة الأولي فهمت بخطوة فزعة وقد انتفض جسدها يئن كالطير الذبيح، لكن الأب تداركها قابضا برفق علي ساعدها وهو يعتصر دمعة قفزت من عينيه الداميتين، سمعت التكبيرة الثانية فالقت بجسدها علي زوجها ودفنت وجهها في صدره تاركة لنشيجها العنان، ربت عليها الأب مواسيا، وهو الأحوج للموساة ، مد بصره ليجوبَ أنحاء الميدان .. قفزت دموعُه متلاحقة وهو يسمعُ التكبيرةَ الثالثة، وارتسمت ابتسامةُ رضا ويقين في نهاية التكبيرة الرابعة، ولما قُضيت صلاةُ الجنازة تحرك مستندا علي زوجته التي لازالت ملتحمة به، شق الصفوف صوب الجثمان وهو يردد :
-         ابني .. اللي مات ده ابني ..
أفسح له المشيعون طريقا وهم يربتون علي جسده المرتعد من هول المشهد - وإن بدا متماسكا - وتناغمت عباراتُ المواساة وكلماتُ العزاء، حتي استقر به المقامُ أمام الجسد المسجي.
راقبته العيونُ في صمت مهيب وهو يتأمل وجه الصبي في ألم، بينما عجزت الامُ عن التطلع في وجه وليدها فانهارت مستسلمة لبكاء مرير، بينما تعلق بصر الأب بالسماء وتبتل في خشوع، وهو يرشم الصليب علي جسده متمتما :
-          نشكر الرب .. نشكر الرب .
أتاه صوت السائل في رفق:
-         ابنك ده يا حاج ؟!
أجاب دون أن يلتفت أو يرفع بصره عن وجه ولده:
-         أيوه .. ده ابني.. مينا .


تمت
السيد فهيم