السبت، 5 مايو 2012

يسقط .. يسقط


يسقط .. يسقط
توقف المترو في محطة السادات .. وفُتحت الأبواب المنزلقة، فتوجهت أبصارُ الركاب إلي رصيف المحطة الشهيرة، التي استقت شُهرتها من الميدان الذي أضحي قبلةً للثوار، وقلبا للوطن. كانت الأنظارُ تتطلعُ في ترقبٍ صامت، ترصدُ الشبابَ النازلين، وتستقبلُ الصاعدين، ومنهم ذلك الفتي العشريني، الذي مرق إلي العربة في اللحظات الأخيرة، منفلتا من بين دفتي الباب المنزلق قبل أن يتحرك المترو مستأنفا رحلته .. وقف الفتي محتضنا علمَه، في تثبت بأنفاسه المتلاحقة. يحمل حقيبةً جلدية صغيرة علي ظهره، وشخص ببصره خلف زجاج شباك المترو المنطلق بأقصى سرعته .. اخترق سمعَه صوتُ الشيخ الجالس أمامه يسأله في صوت هاديء :
-         أخبار الميدان إيه؟!
أجابه الفتي بتلقائية وابتسامة صافية:
-         الحمد لله.
-         مش ناويين تجيبوها لبر؟!
قالها الشيخ بعصبية مصوبا نظرته الساخطة إلي الفتي الذي فوجئ بالسؤال وحدة صاحبه، فنظر إلي الرجل في حيرة دون أن ينبث ببنت شفة .. فأعقب رجل ٌ آخر، وكأنه انتهز فرصة إحجام الفتي عن الإجابة .. فقال وقد أرغي وأزبد:
-         مش هايرتاحوا غير لما يخربوا البلد.
وصاحت سيدة في آخر العربة:
-         هيه البلد ناقصة خراب؟! .. كفاية حالنا واقف.
-         ماترد علينا يا بني !!
سأله الشيخ مستفزا .. فقال الفتي بضيق :
-         هيه جت عليا أنا يا حاج؟!
فأعقب الشيخ مردفا :
-         مش انت يابني .. أنا قصدي اللي بياخدوا فلوس من برة .. عشان ينفذوا مخططات الماسونية والأناركية.
فأضاف الفتي بلهجة الخبير العالم بالأمور :
-         واللي بياكلوا كنتاكي .
فأعقبت امرأة:
-         الناس مش لاقية أمبوبة بوتاجاز .. ودول عمالين ياكلو في كنتاكي ..
فانبري شاب ألمعي .. نبتت شعيرات ذقنه متنافرة في فوضي كنبرته الخشنة:
-          بيجيبوا الفلوس دي منين؟!
فقال الفتي متهكما مجاريا لدفة الحديث:
-         ما الحاج قالك بيتمولوا من برة.
هنالك اعتدل الشيخ في جلسته ومط عنقه مشرئبا وقال كمن بلغ سر الأسرار:
-         من المعونات الأجنبية ؟!
فرفع الفتي حاجبيه وهتف في ذهول مصطنع:
-         مش بيقولوا قطعوها؟!
فقال رجل يقف إلي جواره متشبثا بالمقبض أعلي رأسه:
-         لأ .. ماهي رجعت تاني .. بس في السر.
ارتد الشيخ بظهره ليسنده إلي المقعد وهو يزفر في ضيق بالغ:
-         وفي الآخر .. عايزين يقلبوا الناس علي الجيش ... مش كفاية حمي الثورة؟! .. ورحم البلد من شر مالوش آخر.
قالت امرأة عجوز تجلس مستكينة، وقد خرجت أخيرا عن صمتها الوقور:
-         وهوه المشير كان عمل لهم إيه ؟؟ .. بأه شوية عيال يقلوا أدبهم علي راجل أد جدهم؟! .. ده اسمه كلام؟!
فأومأ الفتي مصدقا علي كلامها وقال بانفعال مغلف بأداء مسرحي:
-         أصله جيل ما اترباش .. عيال سيس.
هز الشيخ رأسه في حسرة وغيظ:
-         جيل ما يعلم بيه إلا ربنا.
شاركه الفتي هزة رأسه وقال في حسرة:
-         عندك حق يا عم الحاج ..
ثم التفت إلي من يحيطون به مسترسلا في براءة:
-         عندكو حق كلكم .. سلامو عليكم.
وهنا توقف المترو في المحطة التالية .. فتشبث الفتي بعلمه وانزلق من الباب خارجا من العربة، وما إن وطئت قدمه الرصيف، حتى التفت إليهم ولازالت أعينهم تشيعه في فضول .. رفع يمناه في حماس وهتف بحرارة:
-         يسقط .. يسقط .. حكم العسكر ...
وأطلق ساقيه للريح .  
تمت
السيد فهيم