الجمعة، 9 ديسمبر 2011

ترنيمة عشق


ترنيمة عشق

نفسُ الموعدِ من كلِ عام ... نفسُ الطقوسٍ، ونفسُ الذكريات ... ربما تختلفُ  الأمكنة ... تتبدلُ الوجوه ... ربما تتفاوتُ التفاصيلُ ، لكن تبقي المشاعرُ و تظلُ الأحاسيسُ وهاجة ً كأنما أضرمت في النفس منذ وهلة ... تمرُ سنواتُ العُمُر ... تشيخُ الملامحُ ... يئنُ الجسدُ تحتَ وطئةِ الزمن ... لكن يبقي الحبُ و كأنه وليدُ البارحة ... سََطَر كلماتٍ موجزةٍ علي بطاقة ورقية بيضاءَ ...
.... في الأسكندرية و سأعود غدا...
فلم يكن في حاجةٍ لأكثر من الأربع وعشرين ساعة كي يُتمَ شعائرَ رحلتهِ الأثيرة ... وضع البطاقة في مكان ظاهر كي لا يقلقون عليه ... اتكأ علي عصاه الأبنوسيةِ السوداءَ  ثم غادر الشقة .... بلا زادٍ أو متاعٍ غيرَ شوقٍ فياضٍ ورغبةٍ جامحة ... استقل القطار في صمت ... جلس إلي جوار النافذة في هدوءِ ناسكٍ يُرددُ تراتيله الخاصة ... تابع بعينيه مفردات الطريق كالمتأمل المدقق في معطيات الكون الرحب الذي لا يسعه إلا قلبٌ مؤمن ... تجاوز اللحظة، و عبر حدود المكان وأطلق لذاكرته العنان ... هنالك... في الأسكندرية ... كما اعتادا أن يسترجعا سويا ذكرياتِ أيامٍ خلت ... أيامٍ ألفت بين قلبي عاشقين ، جمعت روحيهما لتذوبا روحا صافية متوحدة في جسدين منفصلين، لكن بذاتٍ واحدة ... ذكريات  نقشت في فؤادهما أثرا لا تمحوه الأيام ... رغم زواجهما الذي دام سنينا طوالا، مثمرا عن أربعة من الأبناء ، إلا أن لهفة اللقاء، و دفءَ الحبِ لم يفتُرا ولو لحظة واحدة ... تعاهدا منذ الوهلة الأولي علي تجديد الشوق ومد دعائم المودة والرحمة لتغذي حبهما الذي أضحي خيرسكن للنفس، وملاذا آمنا ضد خطوب الزمن ... فكانا يقتطعان هذا اليوم من كل عام ليجددا شباب عشقهما الذي تمنيا له الخلود ... ينئيان بذكرياتهما عن كل الدنيا ، الأهل والأصدقاء ، الجيران ، حتي الأبناء تعودوا علي هذا الطقس البديع ... مرت سنوات وسنوات  ... مهما كانت الظروف ومهما كانت الأشغال والعقبات ... تتوقف الحياةُ من أجلهما ... من أجل حبهما ... في هذا اليوم بالتحديد من شهر يناير وفي الأسكندرية حيث كان لقاؤهما الأول ... يرتادان نفسَ الأماكن التي شهدت مولد حبهما ... يمارسان نفس الطقوس التي غذت هذا الوليدَ المقدس لينموَ ويكبُرَ يوما بعد يوم ... كانت معالم الأماكن تتغير وتتطور من حولهما ... وكم مارس الدهر لعبته الأثيرة في طمس آثار الشباب و نحت خطوط الهِرمِ بارزةً علي الجبين ، و كلل المشيبُ تيجانَ الرؤوس ... لكن أبدا لم يجرؤ أن يقترب من قلبين كانا ولا زالا ينبضان بحيوية الشباب ، تتدفق فيهما دماء الحب ... صافية رقراقة ، لا يدركها المشيب.
تجوَل في الأماكن ... غير عابيءٍ بالوجوه ، فلم يكن يري سواها ... لم يكن يسمع غير همسها ممتزجا بصوت موج البحر الهادر ... جلس قُبالة البحر يتأمل اللاشيء ... موجة... تلاحقها موجة... فموجة ... حتي يصيرَ الجميعُ زبدا رابيا ، تماما مثل أيام العمر ... لمحه عاملُ المقهي وقد تذكره فور رؤيته فابتسم مومئا برأسه في أُلفة ... وما هي إلا لحظاتٍ حتي انساب صوت أم كلثوم تشدو برائعتها ألف ليلة وليلة ... أطبق عينيه و تنفس بعمق و أطلق لروحه العنان ... تماما كما كانا يشدوان معها بالروح والفؤاد ... حملته قدماه  معتمدا علي عصاه إلي بئر مسعود ، أخرج القطعة المعدنية ، همس مُسراً لها  بأمنيته ثم ألقاها في البئر وقد اعترته ابتسامة عجيبة صبغت سحنته بسعادة لم يجد لها سببا و لا جامح ... فاستسلم لها بكل كيانه ... تمني لو أنها تُمطر ... فما هي إلا لحظات حتي بدأت قطرات الحياة تنهمر من السماء فما وسِعَهُ إلا أن يفرد ذراعيه ... مستقبلا رذاذ المطر بصدره ووجهه وهو يضحك ويدور حول نفسه في سعادة وقد ندت عنه ضحكات  مجلجلة وهو يردد ... يا الله ... الله ...الله ... تماما كما كانا يفعلان سويا ... وغرق وجهه ... لا يدري ... دموعٌ هي؟! .. أم قطراتُ المطر ؟!  سار بمحاذاة الكورنيش يناجي روحَها التي لا زالت تسكنُ قلبَه ... غازلها ... أفضي لها بحبه ... أنشد فيها شعره  كمجنونٍ بليلاه ... آهات .. تنهدات ... وهمس حنون ... لم يكن حديثا من طرف واحد !!، لا والله ... كانت روحُها تبادله ، آهة بآهة ... تنهيدة بتنهيدة ... همسا بهمس ... لكنه همس لا يدركه إلا العاشقون ... اشتري لها زهرة وردية من بائع الزهور الذي ألفه سنوات ... كان يدرك أنه من العبث أن يمنحها زهرتها تلك اللحظة ... مجنون بحبها ؟!.. نعم ... لكنه لا زال يفصل بين الوهم والواقع ... احتفظ بالزهرة في يده المرتعشة ثم اتخذ طريق العودة إلي محطة القطار بعد أن أتم مهمته وغسل روحه وفؤاده من معين العشق الذي لا ينضب ... دخل شقته ، طوي البطاقة البيضاء ومزقها فقد اطمئن أن أحدا لم يفتقده من الأبناء ... تأمل صورتها التي طالعته مبتسمة في هدوء  كملاك ... طبع  قبلة حانية علي الزهرة الوردية ووضعها بإجلال أمام الصورة ... ثم رفع كفيه وشرع في قراءة الفاتحة .

تمت
السيد فهيم      

الأحد، 4 ديسمبر 2011

الساعد


الساعد
قصة قصيرة
تأليف: السيد فهيم 

عدلت المذيعة الحسناء من هندامها وداعبت بأناملها المنمقة بعناية بالغة خصلات شعرها المرسل في رقة خلف رأسها وتهيأت لبدء تصوير الحلقة ... أعلن المخرج بدء العمل ..
-         أكشن .
فاقترب المصور بعدسته من إحدي السيارات القابعة أمام ورشة الميكانيكا وقد شرع العاملون في إصلاحها  بهمة ونشاط وتركيز شديد... اقتربت المذيعة وقد لفت نظرها تلك القدم الصغيرة المطلة من أسفل السيارة المعطلة.... انحنت قليلا و اقتربت معها الكاميرا وقالت في رقة :
-         صباح الخير.....
 انتظرت لحظات حتي خرج الجسد الضئيل من تحت السيارة مطلا بوجه أكثر ضآلة ملؤه براءة طفولية وإن ارتسمت عليه ملامح جادة تكسبه سنا أكبر من سنه .... كان الوجه ملطخا بالسواد أثر الشحم والعادم والزيت المنحرق حتي لاتكاد تري منه إلا بياض عينين اتسعتا عن آخرهما في مفاجأة ممزوجة بسعادة بالغة حينما رأت الكاميرا .. هتف الصبي غير مصدق :
-         التليفزيون ؟!!
 أومأت المذيعة بابتسامة لطيفة تدربت عليها وهي تقول :
-         أيوه .. ممكن اتعرف بيك ؟
حاول أن يعتدل في جلسته .... رفع ساعده وهولازال ممسكا بيده المفتاح الذي كان يعمل به منذ وهلة محاولا أن يمسح الآثار التي علي وجهه بساعده ... لكنه زاد اتساخا اكثر وأكثر ... ثم نظر الي الكاميرا في ثقة وهو ييجيب :
-         أنا عبد الله .
سالته  وهي تتأمل ذلك الساعد الصغير وقد برزت منه عضلات تشي بقوة كامنة رغم ضآلة البنيان :
-         عندك كام سنة يا عبدالله ؟!
 أجاب دون تفكير كمن توقع السؤال :
-         سبعة .
 فتابعت الحوار :
-         بتشتغل في الورشة من زمان ؟!
 قال بشيء من الفخر :
-         من وانا صغير .
 وهنا انبري الأسطي صاحب الورشة والذي كان يتابع الحديث متعمدا أن يظهر في خلفية الصورة وهو ينظر للصغير في غيظ وحسد.. وقال بلهجة الخبير :
-    أمه جابتهولي من عمر أربع سنين ... ست غلبانة ما حيلتهاش م الدنيا غيره ... حاكم الواد يتيم .. انما انا بأه علمته وظبطته لحد ما بقي أسطي يعجبك .
 تجاهلته وعادت للصغير  متسائلة في لهجة غلبت عليها الشفقة لتشي بإجابة متوقعة...
-         مبسوط يا عبدالله؟! ...
 لكنها فوجئت به يجيب بلهجة بسيطة وتلقائية ...
-         الحمد لله ...
 تأملته لحظة وقد احتوت جسده الهزيل بعينيها  وكأنما شاركتها الكاميرا تأملها للصبي ففحصته  من أصابع قدميه الدقيقة المطلة من مقدمة حذاء مهتريء إلي ملابسه البالية التي كشفت عن قفصه الصدري ... حتي عنقه ذي العروق البارزة والوجه النحيف الذي لايحمل إلا عينين براقتين بالأمل إلي شعره الأشعث الأغبر ... ثم توقفت الكاميرا طويلا عند ساعده النابض بالعنفوان وأصابعه القابضة علي المفتاح في قوة ومباهاة كمن يرفع شهادة تفوق ... وكان السؤال الأخير والذي أكد المخرج علي أهميته ...
-         كان نفسك تبقي إيه لما تكبر ؟!...
ابتسم الولد في سعادة وقد برزت لآليء فمه للمرة الأولي ... أخذ نفسا عميقا ليشبع صدره بالهواء وقال  في ثقة وقد رفع جبينه في شمم ...
-         إن شاء الله هابقي ظابط .



تمت